ثلاثة أسابيع عاشتها الشعوب العربية وهي تشاهد المجازر اليومية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ثلاثة أسابيع وهي تكتم أحزانها وتحبس دموعها في مآقيها، أمام العربدة الصهيونية الدموية، فمقابل جندي أسير، يتم حصار مليون فلسطيني وتقطع عنهم الكهرباء والماء ويُشدّد الحصار حتى تهدّدهم المجاعة في أرض العسل والسمن.
ثلاثة أسابيع، والشعوب العربية تشهد حلقةً جديدةً من مسلسل انهيار النظام العربي المتفسخ، فأكبر «الأخوات» تضغط على الفلسطينيين لتحرير الجندي الأسير، ولا تفكر في مخاطبة العدو المحتل بـ «تحريك» ملف 10 آلاف أسير عربي فلسطيني منسي. بينما شقيقة أخرى يتفاخر سفيرها أمام الأميركيين بأن سياسة بلاده الدائمة كانت هي الضغط على الفلسطينيين للسير على نهج غاندي!
وسط هذا الانهيار العربي، تحرّكت بيروت، لتنفض عن نفسها الغبار، وتخلع عنها الصورة التي روّجتها فضائيات الرقص وقاعات الديسكو. تعود بيروت إلى حمل البندقية، فتهتز لها قلوب مئتين وستين مليون عربي مكبّل في الأقفاص التي يسمّونها أوطاناً عربية.
في اليوم الأول، صَحَت بيروت وهي لم تصدّق نفسها، حتى حكومتها تبرأت من «العار» الذي اقترفه «حزب الله». مذيعو بعض الفضائيات اللبنانية كانت على وجوههم أمارات الرعب. كوندليزا رايس أدانت العملية وطالبت بإطلاق الأسيرين البريئين! الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وحتى روسيا كلهم شاركوها الإدانة. على أن أسرع من أدان هو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بيدرسون، الذي أعرب عن «قلقه البالغ العميق» لخرق حزب الله الخط الأزرق!
أما في اليوم الثاني، فقد تم امتصاص الصدمة. فظهر أمس أخذت قناة «المستقبل» تبث أغان وطنية وتكرّرها كل خمس دقائق. من وديع الصافي الذي يغني للبنان وبيروت شمس العواصم التي لا يوجد أجمل منها، إلى فيروز التي صاحت: «خذوني إلى لبنان... لأصلّي تحت أجمل سماء في الدنيا»، ومارسيل خليفة الذي أخذ يصدح بوطنه الذي يحبه.
المواطن العربي وهو يراقب ما يجري من بعيدٍ، يبدو له أن مزاج بيروت المنقسمة على نفسها تغيّر، ففي وقت الخطر تتناسى غالبية الأطراف خلافاتها وتتوحد كلمتها أمام هجمة العدو الشرس الذي لا يرحم. كثيرون سيلومون حزب الله على فعلته، التي «ستدخل لبنان في نفق مظلم». بعضهم سيجاهر، وبعضهم سيكتم رأيه حتى تضع الحرب أوزارها. وهناك من نغّص عليهم حسن نصرالله عطلتهم، من المصطافين الذين لا يعرفون لبنان إلا في أوقات شرب الأنخاب، فبدأوا بحزم أمتعتهم وشد الرحال بعيداً، فلا يجتمع «أمر» و«خمر» كما قال أحد الخلفاء القدامى.
أما محمدحسين فضل الله فاعتبر العملية إبداعاً لبنانيّاً مميزاً، ونوّه بمستوى التخطيط والتنفيذ، والأداء الجهادي الذي يمثل قدوةً للعمل الإنساني المقاوم والنظيف الذي يشرّف الأمة، ويعطي الزخم والدفع لقضايا الأمة، ولاسيما مؤازرة الفلسطينيين.
بيروت وحدها تتحرّك في ساحةٍ مفتوحةٍ، وبظهرٍ مكشوف، والعالم العربي الخائف يراقب شمس العواصم من بعيد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1407 - الخميس 13 يوليو 2006م الموافق 16 جمادى الآخرة 1427هـ