النواب يعرفون قبل غيرهم أن آليات استصدار قانون عن طريق إرادة خالصة من قبل المجلس ومن دون رضا الحكومة في حكم الخيال المحض، والقرارات التي تصدر تسير في طريقزر ذات اتجاه واحد، هذا إذا قبلت الحكومة بفتح هذا الطريق، ولا يتغير الاتجاه إلا بإرادتها أيضا، فبأي حق يضيقون على القادمين من نواب الشعب حين قرروا التصويت بنعم للاستجواب في الغرف المغلقة؟ والحديث موجه إلى نواب الكتل الإسلامية بالذات، فهم الأكثرية، ولولاهم لما تم تمرير مثل هذا القرار المجحف في حق غيرهم، والسابقة في تاريخ برلمانات العالم أجمع.
ويبدو أن المانع من الاستجواب العلني هو المحافظة على كرامة وسمعة الوزير، ولكن الغريب أنه وقبل فترة من هذا القرار يتقدم بعضهم باقتراح لقطع يد السارق، وقطع يده تمثل وصمة تستمر معه طيلة عمره، وقد يطالب هؤلاء النواب بإقامة الحد أيضا في الطريق حتى يشاهده الغادي والرائح تحت دعوى ردع الآخرين... وهكذا لا يتردد هذا البعض من النواب بالتقدم بمثل هذه المقترحات واشغال وقت المجلس بما يعرفون مسبقاً استحالته في وضعنا الحالي.
والسارق قد تكون جريمته في حق فرد واحد، ومع ذلك يطالب بعض هؤلاء النواب بقطع يده، بينما الوزير إذا تهاون في عمله، فقد يتسبب في سرقة أمة بكاملها، والاستجواب عبارة عن محاكمة علنية قد تقود الوزير إلى أن يخرج إما مذموماً مدحوراً يداس بالأرجل وهو مستحق لأكثر من هذا، أو يخرج وهو يمشي متبخترا مرفوع الهامة عالياً، وربما حملوه على الأكتاف.
وليس معروفاً بالضبط السر وراء إصرار هؤلاء النواب الإسلاميين على استجواب الوزير سرا في الغرف المغلقة، مع أن الاستجواب عبارة عن محاكمة، والمحاكمة العلنية من روح الإسلام ومبادئه، ومعروف أنها تحدث بشهادة الموجودين في المجلس، وقد روى الموفق بن أحمد البكري المكي الحنفي وبالحرف الواحد في كتابه «المناقب»، أنه قد «استعدى رجل عمر على علي، وعلي جالس، فالتفت عمر إليه فقال: يا أبا الحسن، قم فاجلس مع خصمك، فقام فجلس مع خصمه فتناظرا، وانصرف الرجل، فرجع علي إلى مجلسه، فتبين عمر التغير في وجهه، فقال: يا أبا الحسن، مالي أراك متغيراً؟ أكرهت ما كان؟ قال: نعم. قال: وما ذلك؟ قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: يا عليا، قم فاجلس مع خصمك؟ فاعتنق عمر علياً، وجعل يقبل وجهه، وقال: بأبي أنتم، بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظلمات إلى النور».
وإذا ما ثبت على شخصية رسمية الخيانة في المال العام، فلن تجد أقسى من الإسلام تجاه هذا الجرم، ويكفي لعظمة المال، أن الله أنزل على قوم عذاب الاستئصال لتطفيفهم في المكيال والميزان. ولنتأمل جزءا من هذه الرواية وما فيها من قسوة بالغة جداً من قبل الإمام علي (ع) على العابثين بالمال العام، فقد روي أنه استدرك على عامل له يدعى ابن هرمة خيانة، وكان على سوق الأهواز، فكتب إلى رفاعة (كما يبدو أنه الوالي): فإذا قرأت كتابي هذا فنح ابن هرمة عن السوق وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه واكتب إلى أهل عملك لتعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله عز وجل من ذلك وأعزلك عزلة وأعيذك بالله من ذلك، فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن واضربه خمسة وثلاثين سوطاً وطف به في الأسواق، فمن أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً (المنبوح: المشتوم. يقال: نبحتني كلابك، أي لحقتني شتائمك)، واحزم رجليه بحزام...»
والسؤال: أليست الكتل الإسلامية في المجلس النيابي أولى بالتشبث بهذه المبادئ الإسلامية الناصعة؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1407 - الخميس 13 يوليو 2006م الموافق 16 جمادى الآخرة 1427هـ