تقوم كل الأجهزة والقوانين التي أتينا على ذكرها في الحلقات السابقة بالوظيفة الأولية لأجهزة الانضباط العمومية وهي تحصين الدولة من العنف المحتمل وتحييد المخاطر وتثبيت الجماهير المبعثرة وغير النافعة ووضعها تحت العين والمراقبة.
وحين استقرت الدولة صار المطلوب أن تعمل أجهزة الانضباط هذه دوراً إيجابياً من شأنه أن ينمي المنفعة المحتملة للأفراد، أي أن يجري تهيئتهم ليكون لانضباطهم هذا منفعة ما. وهنا يأتي دور جهاز الانضباط والتنميط الأهم: مؤسسات التعليم وأنظمته والتي كانت بالنسبة لبلغريف كالألم المستديم في الرقبة، ومع هذا فقد كان يعول عليها آمالاً كبيرة في صنع «الشعب سهل القيادة والحكم والانضباط» إيماناً منه بصحة تلك المقولة التي ينقلها عن اللورد بروغهام التي مفادها: «أن التعليم يجعل الشعب سهل القيادة، صعب التسيير، من السهل أن تحكمه لكن من المستحيل أن تستعبده» (مذكرات بلغريف، ص 147).
ومن هذه الرغبة انطلقت مسيرة التعليم النظامي. وعلى رغم الصعوبات التي واجهتها هذه المسيرة في تحقيق الحلم الأكبر في صنع «شعب سهل القيادة والحكم والانضباط»، فإنها انتصرت في آخر المطاف، وخصوصاً بعد الإصلاحات الكثيرة التي عرفها التعليم مع مطلع الأربعينات، وهو ما جعلها أقوى أجهزة الانضباط والتنميط في البلاد. ففي العام 1940/1941 تم تحديد «ساعات الدراسة وساعات العمل للمدرسين والمديرين، وكما تم وضع كادر وظيفي للمدرسين، وأدخل نظام الزيادة السنوية، وتم تسجيل جميع المدرسين والمديرين في نظام موظفي الحكومة للخدمات العامة (...)، كما فرض اللباس العربي للطلاب والمدرسين ماعدا مدرسة الصناعة» (مئة عام من التعليم النظامي في البحرين، ص 315). وفي سياق تقنين الانضباط والتنميط العام ظهرت الحاجة إلى تحديد سن قانونية لانخراط الطلاب في التعليم. ويذكر تقرير العام 1940/1941 أنه تم تحديد «سن دخول المدارس بحيث يكون أقرب إلى الثماني سنوات. وتم التخلص تدريجياً من الطلاب الكبار والمتزوجين ووضع نظام لمعاجلة الكسالى أو التخلص منهم» (مئة عام من التعليم النظامي في البحرين، ص 315). ويذكر أحمد العمران في تقرير التعليم للعام 1945/1946 أنه تم تحديد «سن القبول في المدارس من 4 إلى 5 سنوات، وكان في السابق من 7 إلى 8 سنوات، كما تم التخلص التدريجي من الطلاب كبار السن والمتزوجين» (ص 370).
وفي السياق ذاته، أيضاً أصدر بلغريف في العام 1950 إعلاناً يعلم فيه الجميع بأن «الأولاد الذين هم تحت السابعة من أعمارهم سيقبلوا في مدارس حكومة البحرين». وهذا ما أكده قانون التربية والتعليم للعام 1985 في المادة 46 من الباب الثاني/الفصل الأول، وهو ما صدق عليه قانون التعليم الجديد للعام 2005، ونص في المادة (6) على أن «التعليم الأساسي حق للأطفال الذين يبلغون السادسة من عمرهم في مطلع العام الدراسي»، إلا أن هذا الحق هو واجب على الآباء الذين سيكونون ملزمين بتنفيذ هذا الحق على مدى تسع سنوات دراسية على الأقل. ومن أجل ضمان تنفيذ هذا الحق فقد نصت المادة (8) من القانون على العقوبات المترتبة على «والد الطفل أو المتولي أمره إذا تسبب في تخلف الطفل الذي بلغ سن الإلزام عن الالتحاق بالتعليم، أو انقطاعه من دون عذر مقبول عن الحضور إلى المدرسة مدة عشرة أيام متصلة أو منفصلة خلال السنة الدراسية».
تسكين حركة البشر
وبهذه الطريقة تمكنت الدولة من تسكين حركة البشر وضبط تنوعهم الذي كان علامة على الفوضى والتبعثر والاختلاط والتداخل، وليس أدل على رغبة التنميط هذه من إشارة مدير التعليم أدريان فالانس في مطلع الأربعينات، إلى تحديد سن دخول المدارس، وفرحته بقرب التخلص التدريجي من الطلاب الكبار والمتزوجين، وهو نفسه يشير في التقرير ذاته إلى أن «فارق الأعوام» بين الطلاب يمثل عقبة أساسية أمام نجاح التعليم (ص317). وفي تقرير التعليم للعام 1945/1946 يشير أحمد العمران إلى أن أدريان فالانس هذا هو الذي قدم اقتراحات لتحسين التعليم وتوسعة مجالاته والتحذير من العوائق الذي تقف في وجه التعليم ومنها «ترك المدارس في سن مبكرة وازدحام الفصول والغياب والتسيب» (ص370). ويشير تقرير العام 1944 إلى أن «سن دخول المدرسة حاليا بين 6 و7 وأحياناً ينخفض إلى خمس سنوات، بينما في السابق كان سن الدخول بين 11 و12 سنة. وفي الوقت الحالي يوجد القليل من الطلاب ممن تتجاوز أعمارهم 16 سنة في المدارس الثانوية» (ص350). وفي سياق عملية التنميط أيضاً تمت عملية «توحيد الكتب بعد أن كانت مهمة الاختيار متروكة للمديرين والمدرسين» (ص323)، وفي العام 1943 تمت عملية توحيد المناهج الدراسية في جميع المدارس الابتدائية في البلاد. وفي السياق ذاته، جرى فرض اللباس العربي على الطلاب والمدرسين، وفي 14 يناير/ كانون الثاني 1942 صدر تعميم يذكر المدرسين والمديرين بالقانون المتعلق بشأن «ارتداء الملابس الوطنية البحرانية. ومضمون المادة التي جاءت في اتفاق المدرسين الفلسطينيين ينص على ما يلي: (ينتظر منك ارتداء الملابس الوطنية المستعملة في البحرين)» (خليج الحكايات، ص114). ويلزم هذا التعميم المدرسين بارتداء الملابس الوطنية حتى بعد ترك المدرسة ظهراً ومساء بحجة أن المدرسين ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة أمام طلابهم ما يجعل عملهم «لا ينحصر بساعات التدريس». وينص على أنه «لا يسمح لأي مدرس أن يحضر إلى مقر عمله أو لدائرة المعارف مرتدياً ملابس غير الوطنية المنصوص عليها» (ص114).
الانضباط العام
وبهذا صار الانضباط عاماً، والتنميط شمل كل البشر إذ فرض عليهم أن ينتظموا في مسار ثابت وموحد يبدأ من تسجيلهم في سجلات المواليد، ثم انتظامهم في التعليم في سن معينة، ثم يسيرون في هذا الانتظام بثبات وتدرج متصل، وإذا ما نجحوا فإنهم ينهون مرحلة الانتظام المدرسي في سن معينة، وبعدها ينخرط المرء في سوق العمل، ثم يجبر على ترك العمل مرغماً عندما يبلغ سن الستين للرجال، والخامسة والخمسين للنساء. وفي نهاية المطاف على الأهل أن يبلغوا عن حالات الوفاة، ويستخرجوا شهادات الوفاة. هذا مسار ثابت وموحد وينتظم معظم المواطنين، وتقوم به الدولة وأجهزتها الانضباطية بوعي أو بلا وعي من أجل تعديل سلوك الناس وخلق مواطنين بمواصفات متشابهة قدر الإمكان. وهذا شرط لقيام الدولة، إلا أنه شرط يمهد للقضاء المبرم على التنوع والتباين بين البشر في سلوكهم وخبراتهم وأساليب عيشهم ولهجاتهم وملابسهم ومهنهم. ولهذا يقول فوكو «إن الانضباطات هي تقنيات تهدف إلى تأمين تناسق التعدديات البشرية» (ص223) أي فرض التنميط من خلال القضاء على التنوع بين البشر.
سريان التنميط
ومع هذا التنظيم الحديث سيسري قانون التنميط والانضباط على جميع المواطنين، وعندئذ لن يكون هناك أي استثناء، فالجميع ملزم بالانتظام في الدراسة في سن السادسة، والالتحاق بعالم الوظيفة في عمر متقارب، والجميع ستنتهي خدماتهم الوظيفية ويحالون على التقاعد في عمر ثابت ومحدد، كما أن معظم الناس يتزوجون في عمر متقارب، وفي هذا السياق يذكر بلغريف أن التعليم رفع سن زواج الفتيات البحرينيات إلى عمر 15 و16 بعد أن كانت الفتاة تتزوج في عمر 12 و13، أما اليوم فإن معظم البحرينيين، ذكوراً وإناثاً، يتزوجون بين عمر (20 - 29). وفي إحصاء 2003 لم ترصد حتى حالة زواج واحدة لذكر في عمر أقل من 15، أما من بين الإناث فقد رصدت 13 حالة فقط. في حين بلغ عدد الذكور المتزوجين في عمر (20 - 24) 1546، وعدد الإناث 2189 من بين 4870 حالة زواج في العام 2003. ومن طبيعة هذا المسار أنه مسار متصل غير منقطع، فالفترة بين (6 و17 عاماً) هي فترة الانتظام في التعليم، والفترة بين (18 و60 عاماً للرجال، و55 عاماً للنساء) هي فترة الانخراط في الوظيفة والعمل. ولهذا نص القانون رقم (13) لسنة 1975 بشأن تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لموظفي الحكومة - وستكون لنا عودة مركزة إلى هذا القانون - في المادة الأولى/ج على أن «الموظف هو البحريني الجنسية الذي تربطه بالدولة علاقة لائحية لها صفة الدوام وبلغ الثامنة عشرة من العمر ولم يتجاوز الستين ويعمل في خدمة الحكومة».
الخبرات ذاتها
وعلى هذا فإن الإنسان البحريني ينتظم في قانون التنميط والانضباط العام بين عمر (6 و60 سنة) للرجال، وعمر (6 و55 سنة) للنساء. وكنتيجة حتمية لهذا الانتظام العام والطويل فإن معظم البحرينيين يتلقون الخبرات ذاتها، ويمرون بتجارب حياة تعليمية ووظيفية متشابهة، ما يعني أنهم جميعاً مواطنون ذوو نمط حياة متقارب، ونتاج تحكم رسمي واجتماعي واحد وموحد. وهو ما يعني أن مجتمع البحرين بعد بناء الدولة هو مجتمع موحد ومنمط تحكمه أجهزة انضباط ومؤسسات تنميط واحدة، ولهذا تكون له طبائع موحدة وأنماط وعادات تنزع إلى التماثل.
القلة النافرة
ولا يسلم من قانون الانضباط والتنميط العام هذا أحد اللهم إلا قلة نافرة لم تنتظم في مساره الثابت المتصل. والنافر الشاذ هو من يفلت من هذا المسار ومدار التنميط والانضباط العام، وهو مهدد بالعيش تحت هاجس المجازفة دائماً، فأمامه مساران اثنان: الأول مسار متحرر من قانون التنميط والانضباط العام قدر الإمكان ولكنه مسار ذو خيارات مفتوحة على احتمالات النجاح والفشل. ومن جهة أخرى هناك مسار ثابت ومنتظم ومعلوم العواقب، وهذا أهم ما يغري في هذا المسار. وينقسم هؤلاء النافرون إلى نوعين: الأول يضم الأطفال من دون سن السادسة، وكبار السن المتقاعدين. والثاني يضم العاطلين عن العمل، والمتسربين من الدراسة، ورجال الدين غير الموظفين، وأصحاب الأعمال الحرة والمتحررة من قانون التأطير العام لفعالية العمل والذي يحصر قوة العمل بالنسبة إلى البحريني بين (18 و60 عاماً) للرجال، و(18 و55 عاماً) للنساء.
وفيما يتعلق بالفئة الأولى فإن هؤلاء لا يشكلون خطورة كبيرة على قانون الانضباط العام؛ لأنهم يعيشون في حال اعتماد شبه كامل على الغير. وهؤلاء إما أن يكونوا منخرطين محتملين في مسار الانضباط الثابت والمنتظم كما هو حال الأطفال، وإما أنهم منخرطون سابقون في هذا المسار كما هو حال المتقاعدين. وتكمن خطورة الفئة الثانية على مسار الانضباط العام في كون الواحد منهم تتاح له الفرصة كاملة للتمتع بمنجزات الحداثة الطبية والصحية، وتسري عليه كذلك البشرى برفع الأجل المتوقع إلى 74,5 عاماً، إلا أن ما يميزه أنه يتمتع بقدر أكبر من إيجابيات ما قبل التحديث الرسمي ونشوء الدولة والتنظيم الحكومي ومستلزماته والتزاماته. فهو بهذا قد نال الحسنيين. ولهذا فمن المتوقع أن يكون عمر هؤلاء أطول من نظرائهم ممن نالوا الحسنى الأولى فقط، فارتفعت آجالهم المتوقعة إلى 74,5 في حين أن انخراطهم في مسار الانضباط العام يجعل أعمارهم الفعلية تنتهي عند عمر 65 فأكثر. ولهذا فإن هذه الفئة النافرة هي أخطر ما يهدد فعالية التحكم العام في الأفراد، وتنميطهم بصورة شبه موحدة. ومع هذا يظل هؤلاء قلة قليلة لا يحسب لها شأن كبير، ولا يتصور أنها تمثل تهديداً فعلياً لقانون الانضباط العام. وربما كان العاطلون هم أكبر خطر يواجه هذا القانون، ولهذا يخطئ من يظن أن من مصلحة الدولة أن تدفع بالآلاف المؤلفة ليكونوا عاطلين، لأن أهم ما يميز هؤلاء أنهم نافرون ومتمردون على قانون الانضباط العام ومتحررون من كل التزاماته، ولهذا فهم يهددون هذا القانون في الصميم. ومن هنا يكون من مصلحة أي تنظيم أن يعمل على انخراط الجميع في آلة التعليم والعمل، وأن يقلل نسبة المتسربين من الدراسة، ونسبة العاطلين عن العمل. أما رجال الدين فقد بدأت الحكومة بجهود واضحة تهدف إلى انخراطهم ضمن مسار الانضباط والتنميط العمومي وذلك من خلال إقرار كادر الأئمة والمؤذنين ما سيسمح بتحول رجال الدين إلى موظفين يتسلمون مرتباتهم من الدولة، وتنسحب عليهم كل الالتزامات والانضباطات التي تجري على بقية موظفي الدولة، أي أنهم سيتحولون، في نهاية المطاف، إلى مواطنين «منضبطين»
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1406 - الأربعاء 12 يوليو 2006م الموافق 15 جمادى الآخرة 1427هـ