ليس هكذا تورد الإبل... ليس هكذا نحقق انجازا حقيقيا، باطلاق الحريات العامة في المجتمع، فنضع الاساس المتين لبناء قاعدة ديمقراطية سليمة قوية قابلة للاستمرار.
وهكذا التي نعنيها هي حال الاهتزاز والتردد في اقتحام الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، التي تسود حياتنا ونراها ماضية في الواقع، إلى تعطيل هذا الإصلاح الموعود، بل إلى دفنه سريعا قبل ان يولد وينمو، وهي حال تحالف قوى ورموز نافذة داخل البناء الحكومي تتحدث عاليا عن الإصلاح وعن الديمقراطية، لكنها تعمل ضد كل ذلك وتتعمد عرقلته، حتى لا يمضي في طريق التقدم.
ومن هنا يأتي الخطر الحقيقي على حاضرنا ومستقبلنا، إذ تتناقض الأقوال مع الأفعال، وتتعارض التصريحات الرنانة مع السلوكات المرصودة، وإذ يأتينا حديث الإصلاح مثلا من مكامن الفساد، وخطاب الحرية من مصادر عبادة الاستبداد، فإذا الرأي العام يغرق في التشويش والضياع، ثم يذهب بعيدا حيث فقدان الثقة في كل شيء، فإن وصلنا إلى ذلك فهي النهاية العبثية المقيتة!
ولان مصر تعيش على مدى العامين 2005 - 2006 حراكا سياسيا واضحاً، مع ديناميكية حيوية تطرح قضية الإصلاح الديمقراطي بقوة ورغبة شعبية عارمة، فإننا سنأخذها مرة جديدة، مقياساً عملياً لما ندعي.
ففي إطار البرنامج الانتخابي للرئيس محمد حسني مبارك، الذي فاز على أساسه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. دخلت قضية الإصلاح السياسي والدستوري والتشريعي، من اوسع الابواب، معبرة عن رؤية رئاسية واضحة في تغيير الأوضاع الراكدة وتعديل البنية التشريعية السائدة، وهي كما يعلم الجميع، أوضاع تجمدت وتحجرت، وتشريعات تقادمت وتراكمت، يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر، وان دخل عليها التعديل في القرن العشرين، لكنها في مجملها تعبر عن بيئة ورؤية استبدادية ومتخلفة، لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين.
وقد دخلنا مع هذه الأوضاع، ومع الرؤية الجديدة للإصلاح في اختبارين محددين خلال الفترة الأخيرة، شكلا المؤشر الذي سيقود الإصلاح في الفترة المقبلة.
وما نعنيه هنا هو أولا التشريع القانوني الخاص بإصلاح واستقلال القضاء. وثانياً التشريع القانوني الخاص بإلغاء العقوبات السالبة للحرية، وخصوصاً عقوبة الحبس في قضايا النشر والرأي، والذي يمس حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير بشكل مباشر.
وللأسف فقد جاءت استراتيجية الحكومة تجاه هذين القانونين المهمين، واحدة، تقوم على التمسك برأيها وموقفها المتصلب المعاند والمعاكس، ليس فقط لآراء أصحاب الشأن من القضاة والصحافيين وأصحاب الرأي، بل لرؤية رئيس الدولة وتعهده في برنامجه الانتخابي بتحقيق استقلال القضاء، وباطلاق حرية الرأي والتعبير وكفالة حرية الصحافة وإزالة عقوبات الحبس. التي لم تعد قائمة الا في تشريعات الدول المتخلفة والاستبدادية!
لقد خاض القضاء والصحافيون معارك شرسة، ومازالوا، تطلعاً لتحقيق أهدافهم الشرعية، وهي في الحقيقة أهداف المجتمع بكل فئاته، فاستقلال القضاء يس منفعة للقضاة وحدهم، وحرية الصحافة والرأي، ليس حكرا للصحافيين أو الكتاب وحدهم، لكن حكومتنا الرشيدة تعاملت مع القضيتين بمنطق معاكس، وأصرت على فرض رأيها، ومارست المعاندة التي عادة ما تفضي إلى الخصومة وربما العداء، ومررت بواسطة غالبيتها البرلمانية القانونين وفق ما تراه هي، حتى وان قبلت بعض التعديلات، التي تصورت انها رشوة كافية لاسكات معارضة القضاة والصحافيين.
وأظن ان سياسة المكابرة والمعاندة، بفرض تشريع قانوني بطريقة القسر والمباغتة، لا تنسجم بأي شكل من الاشكال مع المطالب الشعبية الديمقراطية، ولا مع التوجه المعلن للدولة ورئاستها، ولا مع المناخ الدولي، ولا مع مصالح الفئات الاجتماعية، وعلى رأسها المثقفون والمهنيون، الذين يشكلون كريمة أي مجتمع ونخبته المميزة.
وبالتالي فإن التمسك الحكومي بهذه السياسة المعاندة، الخاضعة لمشورة السوء من جانب بعض «ترزية القوانين» سيئتي السمعة والصنعة معا، انما يفضي في نهاية الزمر، إلى صدام حتمي وخصومة عدائية بين الحكومة وبين فئات المجتمع المتطلعة إلى إصلاحات تشريعية ودستورية، تنقل مصر من وضعها الراهن إلى طريق الديمقراطية السليمة والمبتغاة!
وأظن من دون وقوع في الاثم، ان في مصر فئة أو قوة تتعمد توتير المواقف وعرقلة التقدم وتعويق الإصلاح، ومن ثم فهي تعمل وفق أجندة خفية، وتطلق قنابل الدخان لتعمية المجتمع عن هدفها، فإذا بها تعطيك من طرف اللسان حلاوة، لكنها تروغ كما يروغ الثعلب، تتحدث عن الحرية وضرورات الإصلاح الديمقراطي. ثم تنشط وتعمل ضده على طول الخط، لان اطلاق الحريات وتحقيق الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، بعرى الاجندات الخفية، ويضرب مصالح ومراكز القوى الجديدة والقديمة على السواء، ويكسر الدوائر الضيقة لتحالف الفساد والاستبداد.
فإن كان القضاء المستقل النزيه العادل، هو ملجأ المظلومين والمنهوبين والفقراء الذين يزدادون عددا وجوعا، في مواجهة سطوة الفاسدين والمستبدين الذين يصعدون سلالم السيطرة والاحتكار والهيمنة بقوة غير مبررة، فإن الصحافة الحرة والرأي الناقد والتعبير الموضوعي، هم السلاح الباتر ضد هؤلاء. وهم السند الحقيقي لسلامة الأمن الاجتماعي والحيوية السياسية والتعددية الفكرية، وبالتالي فهم الذين يسوقون هؤلاء المستغلين إلى ساحة القضاء المستقل النزيه.
ولذلك، فإن كانت الحكومة قد تمسكت بالنص على أن تظل اليد العليا للسلطة التنفيذية، ممثلة في وزارة العدل، هي القائمة على شئون القضاء، فإنها أيضاً تمسكت بالابقاء على النصوص القانونية التي تفرض العقوبات على الصحافيين وأصحاب الرأي، بما فيها عقوبة الحبس، لتظل يدها هي العليا أيضاً، وبذلك تظل مسيطرة على القضاء والصحافة معا، وخصوصاً هذه الأخيرة، التي أثبتت خلال الفترة الحالية، قدرات مهنية وحيوية سياسية وشجاعة نقدية، اقلقت تحالف الفساد والاستبداد، فإن كانت الصحافة تفعل ذلك وتهاجم وتنتقد بقوة في ظل العقوبات القائمة، فماذا يمكن ان تفعل ان حذفت هذه العقوبات!
وبسياسة المساومة والمناورة ذاتها، قبلت الحكومة إلغاء بعض النصوص العقوبية من قانون العقوبات، لكنها ظلت متمسكة بنصوص أخرى اشد قسوة وأكثر مرونة في عقاب الصحافيين وغيرهم، لتظل قبضتها الحديد مسيطرة قادرة ونافذة على طول الخط، بل اضافت نصاً جديداً، يتعلق بتناول «الذمة» والقذف فيها، بما يعني في الحقيقة تحصيناً جديدا للفساد وحماية للمفسدين، بل وتشجيعا للانحراف والمنحرفين، وترك نهب المال العام سداحاً مداحاً!
لقد تفضلت الحكومة بكرم زائد، بالموافقة على تعديل أربع مواد فقط من قانون العقوبات، الصادر العام 1937 الحامل لقيود مشددة على حرية الصحافة والرأي والتعبير، فرضتها حكومات الاقلية صاحبة القبضة الحديد، قبل ثورة يوليو. لكنها ظلت متمسكة بأكثر من عشرين مادة أخرى في قانون العقوبات المذكور، وفي قانون الصحافة الصادر العام 1996، تنص على عقوبة الحبس وجوبا، وهي كما تعلم عقوبة سالبة للحرية، كان يجب حذفها اتساقاً مع مطالب الصحافيين وعموم فئات المجتمع، المتطلعة إلى اطلاق الحريات وبناء الديمقراطية الحقيقية!
والمعنى الوحيد الذي يستنتجه أي عاقل، هو أن اعداء الحرية وخصوم الديمقراطية، قد نجحوا في اجهاض خطوة مهمة في مسار الإصلاح الديمقراطي، ونجحوا في فرض مزيد من التحصين للفساد ضد النقد والفضح. ونجحوا في الحفاظ الأمين على التراث السيئ لعصور حكومات الاقليات ذات القبضة الحديد، التي اجهضت هي الأخرى منجزات ثورة 1919 الليبرالية، واوقفت دستور 1923 شديد الديمقراطية، عبر تحالفها المشهور مع القصر الملكي ودار المندوب السامي البريطاني، فضلا عن قوى الفساد والاستبداد الصاعدة آنذاك!
فماذا عنا الآن...
لو كنت مسئولا أملك سلطة القرار، لطالبت على الفور بمحاسبة ومحاكمة، «دائرة المشورة السيئة» التي اوقعت الدولة والحكومة والبرلمان، في هذه الورطة التاريخية، المعادية لحركة التاريخ ولحراك المجتمع الساعي والمتطلع للإصلاح الديمقراطي، الراغبة في حماية الفساد والمفسدين والمستبدين القدامى والجدد، بتشريعات قانونية معيبة.
والأرجح. وفقاً لقواعد المنطق ولحركة التاريخ، انها تشريعات ستسقط، وسيعاد النظر فيها، لإصلاح ما اصابها من عوار قانوني وسياسي وديمقراطي، مثلما حدث مع قانون الصحافة رقم 93 لسنة 1995، سيئ السمعة والصيت الذي كان يسمى قانون حماية الفساد، والذي يستعيد ذكراه الآن، من جديد!
خير الكلام: من كتاب الأمالي للبغدادي:
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحتْ
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1405 - الثلثاء 11 يوليو 2006م الموافق 14 جمادى الآخرة 1427هـ