طالما وقفت عند دوار الرفاع - الذي استخدمت فيه حركة واتجاه الأقواس لرسم حروف اسم عاهل البلاد بأسلوب فني بديع - في أوقات فراغ وازدحام الدوار بالسيارات على السواء وأنزلت زجاج نافذة سيارتي عند المغرب. وكثيراً ما تململ السائقون من ورائي لتأخر اجتيازي للدوار، وفي أحوال قليلة جدا عندما لا أكون في عجالة من أمري كنت ألف حول الدوار وأعود من حيث أتيت لأحظى بفرصة جديدة مع عصافيري العزيزة. تلك العصافير البحرينية غبراء اللون نحيفة الجسد التي يملؤها القلق والحذر فلا تكاد تستقر في موضع حتى تغيره على آخر... وهكذا دواليك.
ذات يوم حزين من أيام التفكير بالخسارات البيئية التي لا أعرف كيف أوقفها ومسئوليتنا أمام الله عن كل ما يقع من ظلم على كائنات البحر وثرواته وبسرطان الشبح الصغير الذي خذلته وخذلناه جميعا، تفاجأت وأنا قرب دوار الرفاع بعد صلاة المغرب بقليل أنني لم أسمع أصوات عصافيري الصغيرة، تحركت بسرعة استجابة لبوق السيارة ورائي ولم أستطع العودة لارتباطي بموعد في الجمعية.
تكرر الموقف مرات للأيام التالية عندما لاحظت أن أشجار مدخل الرفاع التي كنا نسميها «غابات الرفاع» قد اختفت وحل محلها حشائش وورود بيضاء ووردية تموت خلال أيام أو أسابيع على الأكثر لينزل إلى الشارع فريق كامل يزيل الميتة منها ويزرع أخرى جديدة! أشجار العصافير إذ تضع أعشاشها وتنام كل ليلة اختفت ولم يبق منها سوى ثلاث شجرات مقابل الدوار، لكن الأصوات كانت تأتيني خفيفة باهتة ومعها يتغير لون مزاجي على الرمادي.
استغرق الأمر فترة من الزمن حتى عادت الحياة إلى الشجرات الثلاث وبقوة. حين كنت أقف أمام الدوار المزدحم بعد المغرب ذات يوم ووصلتني أصواتها من وراء الزجاج فسارعت بإنزاله لأسمع أصواتها العزيزة قوية وتمركزت في الأشجار الثلاثة المتبقية.
كنت كلما التقيت بعض كبار قادة الصناعة في البحرين في مناسبات بيئية قليلة تجمعنا يسألونني السؤال ذاته: من أين لك كل هذه الطاقة للدفاع عن البيئة؟ من أين تستمدينها؟ أفكر قليلا وأجيبهم مبتسمة: من البيئة التي أحب... ويسرح خيالي في الجمال الساحر لبيئة البحرين الطبيعية... في أغاني عصافير دوار الرفاع ولمعة «السلس» الآسرة في المياه المحيطة بجزيرة «امحزورة» وأشجار القرم التي مازالت صامدة في خليج توبلي، والصرخة الحادة التي يطلقها عقاب جزر الحجيات النسري بألوانه الجميلة المتناسقة وأسلوب طيرانه الوقور، وفي قفزات الدلافين الفطرية وهي تحيينا من بعيد في الأماكن القليلة التي مازالت ترى فيها.
كلها بعيدة عني أراها فقط عندما أخطط لبرنامج بيئي توعوي أو بحث في مناطقها المميزة التي لا تمر بطرق سيري اليومية فيما عدا عصافيري الصغيرة مقابل دوار الرفاع («العامرة بحس أهاليها» - كما يقول شاعرهم)... أصواتها الرقيقة كلما ازدادت قوة تنجح أكثر في منح مزاجي المزيد من الورود، وكلما خفتت نسته الألوان ومال إلى الرمادية.
على حبي للنخيل (بنات الديرة) إلا أنني لم أسعد لزراعتها كبديل للأشجار المتشابكة على طول الخط بين دوار الرفاع والدوار المؤدي لشارع الشيخ حمد الضارب في أعماق أحياء الرفاع القديمة، وكنت كلما مررت بالشارع افتقدت تلك الأشجار العريقة الوارفة وافتقدت منظر العصافير المتنقلة بينها ناشرة أهازيج لطيفة متفرقة، وتمتمت بيني وبين نفسي «أرجو ألا تكون حجة من قتل تلك الأشجار بيئية»... كل ذلك كان قبل الإزالة الأخيرة للنخيل أيضا.
علمت بعد فترة من الزمان أن أشجاري الثلاثة في أمان وأن هناك متخذ قرار قوي وضع هذه الشجرات الثلاث تحت حمايته ورفض أن تمس. شعرت بالسعادة حينها وشعرت أنني أحب ذلك المسئول وأحترمه جداً لهذا القرار وعلى رغم أنني لا أعرف أساس حمايته للأشجار فإن حمايته لها تكفيني وتكفي عصافيري الصغيرة التي أخذت في العودة والتجمع على أغصان الأشجار عند المغرب من كل يوم وعادت السيارات الرفاعية للتململ عندما أصل للدوار وأؤخر اجتيازي له قليلاً ريثما ترسم أصوات عصافيري ابتسامة على وجهي وتزرع فرحة في قلبي.
لا اعرف الحكمة من اجتثاث أشجار عريقة ربت ونمت في موقع يحتاج إلى أشجار، بعيد عن بيوت الناس، يفصل بين شارعين نشطي الحركة ما يستلزم وجود جهاز تنقية طبيعي للهواء؟! هل أنا الوحيدة التي تشعر بالظل والانتعاش كلما اجتازت دوار الرفاع في خط مستقيم باتجاه عوالي وتتمنى لو أن ذلك الشارع لا ينتهي أبدا؟
من يتخذ مثل هذه القرارات؟ ولأجل ماذا؟
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1405 - الثلثاء 11 يوليو 2006م الموافق 14 جمادى الآخرة 1427هـ