العدد 1404 - الإثنين 10 يوليو 2006م الموافق 13 جمادى الآخرة 1427هـ

ضحايا يعشقون جلاديهم

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

لماذا يصفق الإنسان لأشخاص وأسماء تعلن البراءة منه سرا وجهرا، وتتعامل معه بوجه مكفهر، وألفاظ غليظة، وطرق مهينة ومخزية؟ ولماذا يستمر في ذلك مصرا على قدرته في تغيير النفوس وتبديل التصورات وتأليف القلوب، وإلى جانبه تاريخ كبير وسيل عارم من التجارب التي تكذبه وتخالفه وتفضحه؟

ولماذا كلما أوجع ضربا وتعذيبا وتقريعا وإذلالا من هذا وذاك، أبدى المزيد من النعومة والتذلل والعبودية، لكي لا يجرح المشاعر ولا يتعدى على الموقعيات ولا يتجاوز الخطوط الحمر؟ لماذا يمتدح وكان يجب ألا يفعل؟ ويقبل إذ يجب أن يرفض؟ وينحني في موقع ربما كان عليه أن يكون فيه مرفوع الرأس حفاظا على ما تبقى من كرامته وكيانه وإنسانيته؟

هذه الأسئلة وعلى نسقها الكثير من الاستفهامات لا تنحصر في الفرد فقط، فطابعها ليس شخصيا محضا، بل يمكن أن يكون هذا الداء اجتماعيا أيضا، فهذه المسألة سيالة ومتدحرجة من القمة إذ توجد القدرة والقوة والشرعية والاعتبار، إلى أسفل الوادي مرورا بكل الحفر والمنخفضات إذ توجد المهانة والرضا بالاحتقار والهوان.

خذ مثلا (عزيزي القارئ): بين برهة وأخرى يصفق العالم العربي والإسلامي بأسره وبكل إعلامه المرئي والمسموع لتصريح بائس ومقتضب لرئيس الولايات المتحدة الأميركية(جورج بوش)، ووزيرة خارجيتها (كوندوليزا رايس ) عن ضرورة قيام دولة فلسطينية إلى جانب الكيان الصهيوني الغاصب، فيهلل الجميع ويرحب القادة العرب والمسلمون بهذه الكلمات الرقيقة والمعسولة، وكأن غشاوة على عيونهم أعمتهم ثم أنستهم من هي الولايات المتحدة الأميركية؟ وما هي سياستها الخارجية؟ وما حجم الدعم المادي والمعنوي الذي توفره لحليفتها «إسرائيل»؟ وما هو موقفها الفعلي والعملي من كل القضايا الإسلامية والعربية والشرق أوسطية؟

من هذا المثل المعتاد والواضح ونزولا إلى ما شابهه من المواقف تأمل (أيها القارئ) لترى أن مثل ذلك يمارس في أطر أضيق وأصغر، إلى أن يصل إلى منازلنا، فالمرأة التي لا يتوقف زوجها عن إهانتها وضربها وتحقيرها، تعتبر مناداته لها وتلفظه باسمها فخرا لا يعلى عليه. ضغوط كثيرة تتكالب وتجر الإنسان أو الكيان (لا فرق) مرغما أو باختياره إلى استعذاب مواقف القهر والذل والهوان التي تفرض عليه، وتدفعه أحيانا إلى التصفيق المبالغ فيه لها، إنها نوع من الهيمنة والاستعمار الخفي، الذي يسلب الآخر قدرته على التوقف عن التماهي والذوبان في أحلامه العميقة، معتقدا أن المزيد من الخضوع والخنوع والعبودية لضغوط الآخرين وإيحاءاتهم ومداراتهم، قد تعود بمردود أفضل، وموقعية أحسن، وتحسن في تعامل الآخر مع هذا الحمل الوديع، ذي الخلق الراقي، والكلام المهذب والرقيق.

العزلة الاجتماعية: إن الشعور المحفور بالدونية جراء التهميش والمقاطعة وما يولده ذلك من معاناة تكمن في العقل الباطن للفرد والمجتمع قد ينقلب هرولة وجنونا وراء الكلمات التضميدية والخطابات التعويضية، التي تعمل على تضليل الفرد والمجتمع وإضاعة بوصلته أو إيهامها باتجاهات ليست دقيقة. هنا يتحول كل خطاب إلى أمل بالجنة الموعودة، وكل كلمة إلى دغدغة للداخل المحتقر، وتصبح التصرفات الأولية والبسيطة (حسن الاستقبال،وطيب الكلام،واللياقة المجاملاتية) عناوين فخر يتغنى بها مسكين العزلة الاجتماعية. هذه المقاطعة لا يتحسس آثارها إلا من عاناها سواء من داخله الاجتماعي أو من خارج هذا الداخل إلى ما يتعداه مما له أثر على حياته الاجتماعية والاقتصادية.

العزلة السياسية: وهي لا تقل في آثارها ومخاطرها عن العزلة الاجتماعية، من حيث استبداد هذا الشعور بالإنسان ودفعه إلى حماقات خطيرة على حاضره ومستقبله، ربما يكون أقلها ما أسلفت من تحوله إلى كائن يحتقر نفسه بطريقة خفية تعتمد على تماهيه وذوبانه في عازله باعتقاد أن ذلك سيمكنه من تخفيف معاناته، والأمن على وضعه وحياته ومستقبله.

العزلة الدينية: وهي أفظع وأشد وطئا من العزلتين السابقتين، إنها تعني مشروعية الإنسان أو الكيان من وجهة نظر الآخرين، وتعني قبوله والوثوق به، والإجازة الإلهية في التعاطي معه، وهي أساس يعتمد (عادة) لكل تباعد وعزل سواء على صعيد الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو غير ذلك، فالعزلة الدينية رأس كل عزلة، وأساس كل نائبة ومصيبة. يضاف إلى ما سبق أن العزلة الدينية قد تكون واقعا يمارسه المجتمع مع بعضه وإن انعدمت الفوارق، بل وإن اتحدت المنطلقات والأهداف، فربما يكون الصراع الاجتماعي وقوة النفوذ والتمدد الجماهيري، وتضارب المصالح هي الدوافع الحقيقية لهذا العزل، وهذا عادة ما يحصل بين المتنافسين في الساحة الواحدة، حين يكون التنافس بينهم في صورته السلبية فيتحول إلى صراع مكشوف بين الأحبة المتخاصمين، يستعملون فيه كل الأسلحة المحرمة دينيا وأخلاقيا.

ضياع الهوية: العزلة ثم العزل ثم التهميش وفي مختلف الأطر والأبعاد، هذا ما يراهن عليه أحد الطرفين ليسلب الآخر إحساسه بقيمته، وليدفعه إلى كره قيمه، واحتقار مواقفه، وتضييع هويته.

ولأن العزل في أبعاده الثلاثة وغيرها متعب ومرهق، وهو نوع من الإرهاب الخفي لتعذيب الضحية والتنكيل بها، لذلك تحاول الضحية الفرار منه بما أتيت من قوة وعزم، وهي في مشوارها (المشروع) هذا قد تضيع الاتجاه الصحيح وترتمي في حضن جلادها، وتطلب رضاه قبل أن ترضي نفسها وأحلامها، فهل هي تفعل ذلك مختارة أم مجبرة؟ وهل دوافعها دائما صحيحة أم خاطئة؟ وهل هذا هو خيارها الوحيد أم لها خيارات بديلة؟

لست أدري، فربما يحسن القارئ الكريم الجواب بفطنته وفراسته أكثر مما يجيدها من صاغ السؤال وكتبه

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1404 - الإثنين 10 يوليو 2006م الموافق 13 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً