حين اخترعت إدارة الرئيس جورج بوش حربها ضد شبكات «الإرهاب الدولي» بذريعة منع تكرار هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 حدد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مدة زمنية لتلك الحرب العالمية «الثالثة» معتبراً أنها ضرورة عسكرية لمحاصرة «الإرهاب» ومنع انتشاره. المدة التي اقترحها رامسفيلد في حربه المختلقة تراوحت بين 30 و40 سنة. وزعم أن تلك المدة كافية للقضاء على الشبكات الإرهابية التي اخترقت قرابة 40 و50 دولة في العالم.
الآن وبعد ومرور قرابة خمس سنوات على تلك «الحرب الدائمة» تبدو حسابات وزير الدفاع الأميركي غير دقيقة. فالإرهاب بحسب رؤيته اتسعت رقعته وانتشر عالمياً، والدول التي اتهمها رسمياً بأنها راعية للإرهاب تبدو هي الأقل رعاية له بل أحياناً تتعرض لهجمات لا تقل ضراوة عن تلك التي تحصل ضد عواصم في الغرب.
«الإرهاب» إذاً انتشر على عكس نظرية رامسفيلد. وبالتالي فإن وزير الدفاع اخطأ أيضاً في تقدير المدة الزمنية لحربه الطويلة والمستمرة. فالوضع الحالي يشير إلى أن تلك الحرب تحتاج إلى فترة لا تقل عن 80 سنة لاستكمال البرنامج الذي وضعته إدارة واشنطن عشية قرارها بإعلان خروج جيوشها من الولايات المتحدة إلى أفغانستان والعراق.
اخطأ رامسفيلد إذاً في مسألتين: الأولى المدة الزمنية، والثانية تحديد مواقع الإرهاب وإمكان محاصرته وعزله جغرافياً.
العزل فشل لأن شبكات الإرهاب امتدت إلى مناطق آمنة سابقاً. والوقت أخذ يضغط على الإدارة لاعتبارات تتصل بحساباتها الداخلية وصراعها على مفاصل الدولة في السنتين المقبلتين.
هذه الحال المتشعبة من المواجهات الإقليمية والدولية كشفت عن وجود غايات غير معلنة تستخدمها إدارة واشنطن لتغطية نظرية الحرب الدائمة. فهذه الحرب العالمية المختلقة شكلت ذريعة للحزب الجمهوري لتبرير سياسة الانفاق المالي على الدفاع والصناعات الحربية.
الوجه الآخر من المسألة له علاقة بالاقتصاد الأميركي وتنافس القطاعات المنتجة على قيادة عجلة الدولة ودفعها بهذا الاتجاه أو ذاك. فالإدارة الأميركية الحالية وظفت تلك الحرب المزعومة لرفع موازنة الدفاع خلال السنوات الست الماضية. ونجحت في هذا السياق بزيادة حصة الدفاع من الموازنة العامة ورفعتها من 265 مليار دولار في العام 2000 إلى 419 ملياراً في العام 2006. وتخطط الآن إلى مزيد من الانفاق في السنتين المقبلتين.
هذه السياسة الدفاعية تذرعت بحرب هجومية دائمة في الخارج (خارج حدود الولايات المتحدة الجغرافية) لإقناع دافع الضرائب أن خطة رامسفيلد «بارعة» لأنه نجح في نقل المعركة من الأرض الأميركية إلى مناطق بعيدة عنها.
تضاف إلى موضوعة محاربة «الإرهاب» ذريعة أخرى وهي تتصل بالطاقة وضرورة المحافظة على منابعها ومصادرها وخطوط نقلها. فالنفط بالنسبة للإدارة يشكل مادة الاقتصاد المحلي ويشكل قوة موازية لمؤسسات التصنيع الحربي. فالنفط هو الوجه الآخر للحرب. والحرب تحتاج إلى الطاقة للاحتفاظ بدور أميركا القيادي في العالم. والطاقة بحاجة إلى حروب للسيطرة على المنابع والآبار وأنابيب الامتداد.
وهكذا تشكلت نظرية عسكرية متكاملة تعتمد على خطين الأول حربي والثاني نفطي (مالي). ومن هذه النظرية التي صنعها الثنائي تشيني - رامسفيلد تأسست فكرة الحروب الدائمة مستخدمة توجهات تيار «المحافظين الجدد» كغطاء ايديولوجي للعداء الثابت ضد العرب والمسلمين. وهذا العداء اختلقته تلك الزمرة الحاقدة والمتعصبة لتمرير مشروعات مالية تصب في النهاية في صراعات محلية وتنافس القطاعات المنتجة على قيادة الاقتصاد الأميركي. ومن يقود الاقتصاد في الولايات المتحدة يقود الدولة ويعيد إنتاج صورتها وفق التوجهات التي تضع رسومها وخطوطها إدارة واشنطن المركزية.
الآن وبعد مرور نحو خمس سنوات على تلك الحروب المختلقة باتت الإدارة تواجه أكثر من أزمة. الأولى محلية وهي عدم قدرة القطاعات المنتجة الأخرى على الاستمرار في التراجع أو التنازل عن حصتها الاقتصادية في قيادة عجلة الدولة السياسية. والثانية عالمية تتصل بنمو ظاهرة الاعتراض على تفرد الولايات المتحدة في تقرير السياسة الدولية. والإرهاب، بحسب التصنيف الأميركي، ازداد وانتشر وتبين بالملموس بأن لا وطن له ولا دين وبالتالي فإن المدة الزمنية التي اقترحها رامسفيلد لمحاصرته والقضاء عليه قصيرة وغير كافية.
المشكلات الدولية والإقليمية التي باتت تواجه الإدارة الأميركية ازدادت واتسعت رقعتها الجغرافية. وأميركا على رغم انفاقها الهائل على التصنيع الحربي والدفاع أصبحت في موقع اضعف سياسياً عما كانت عليه قبل خمس سنوات. وهذا الميل الزائد نحو التراجع السياسي يعكس نسبياً ذاك الضعف الذي بدأ يطاول القطاعات المنتجة الأخرى في الاقتصاد الأميركي. فالتركيز على قطاعي النفط والحرب اضعف البنية العامة لتوازن الاقتصاد الإنتاجي وأعطى أفضلية لنمط محدد. وهذا يعني أن الدولة ستقع لاحقاً في مشكلة بنيوية ليست بعيدة عن صورة تنافس اللوبيات (المافيات) التي عرفتها الكثير من الدول الأوروبية سابقاً في لحظة تراجعها الاقتصادي وقيادتها السياسية للتجارة العالمية.
الحرب حتى الآن لم تتوقف، ولكن قدرات الولايات المتحدة السكانية ومساحتها الجغرافية محدودة ولا تستطيع أن تستمر على حالها الراهنة إلى مسافة زمنية طويلة. فالعالم في النهاية أكبر من أميركا، ونسبة 5 في المئة من سكان المعمورة تستطيع أن ترهب الناس إلى فترة قصيرة، ولكنها لا تستطيع أن تخيفهم إلى ما لا نهاية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1404 - الإثنين 10 يوليو 2006م الموافق 13 جمادى الآخرة 1427هـ