تحدث الكاتب في الجزء الأول من ورقته المقدمة إلى مؤتمر العدالة الجنائية في عمان نهاية يونيو/ حزيران الماضي عن الواقع الذي كان يعيشه ضحايا عهد أمن الدولة في البحرين، والقرارات التي صدرت في العام 2000 وما تلاه من إصدار عفو شامل عن الجرائم الماسة بأمن الدولة، كما تناول الحالة النفسية التي كان يمر بها الضحايا ممن تعرضوا للتعذيب وظروف اعتقال قاسية، وممن عانوا امراضاً مزمنة وعاهات مستديمة او حالات اضطرابات نفسية في خطورتها، وحاجتهم إلى العلاج والتأهيل الطبي.
إن معالجة الاحتياجات المعيشية والسكنية للضحايا عنصر مهم في جبر الضرر ولكنه ليس كافياً إذا أخذنا في الاعتبار أنه حتى ذلك لم يتحقق بشكل مرض، فلنا أن نتصور صعوبة تحقيق جبر الضرر الكامل للضحايا.
شهد العام 2002 مبادرة العائدين إلى الوطن من المنافي لتنظيم أنفسهم، فبعد أن ظلت لجنة توافقية تمثلهم خلال العامين 2001 و2002، جرى عقد اجتماع بتاريخ 23 سبتمبر/ أيلول 2002 حضره نحو 100 من العائدين وجرى انتخاب لجنة تمثلهم في الدفاع عن قضيتهم وتمثيلهم في التفاوض مع الدولة.
وبالنسبة للشهداء وضحايا التعذيب والاعتقال السياسي، فقد تكتلوا أيضاً وعقدوا اجتماعاً عاماً لأهالي الشهداء والضحايا في ديسمبر/ كانون الأول 2002 وشكلوا اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب، والحقيقة أنه ومنذ ذلك الحين فإن قضية ضحايا مرحلة أمن الدولة أضحت مطروحة بقوة على أجندة العمل الحقوقي والسياسي. يعود الفضل في ذلك أولاً إلى الضحايا الذين نظموا أنفسهم، وإلى الجمعيات الحقوقية التي تبنت هذه القضية وتعاونت مع اللجان الممثلة لهؤلاء الضحايا، كما أن تنظيمات المعارضة وشخصيات وطنية وبرلمانية تبنت هذه المطالب.
ولقد شكل صدور المرسوم بقانون رقم 56/ 2002 صدمة للضحايا وعموم القوى الوطنية ومنظمات المجتمع المدني، وجرس إنذار من أن الدولة غير مستعدة للإقرار بمسئوليتها المادية والأدبية تجاه الضحايا، وإنصاف الضحايا.
رابعاً: تعاطي الجمعيات الأهلية مع قضية الضحايا
طوال السنتين الأوليين للعهد الجديد، جرى إصدار عفو محدود عن مجموعات من السجناء والمنفيين السياسيين من كل من الملك ورئيس الوزراء. ثم صدر العفو العام من كل المتورطين في جرائم ضد الدولة، وترتب عليه إطلاق سراح من تبقى من المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة الغالبية العظمى من المنفيين، ورحبت الجمعية كغيرها من منظمات وشخصيات المجتمع المدني بهذا المرسوم.
وهنا علينا أن نتمعن في استخدام تعبير «ممن ارتكبوا جرائم بحق الدولة» وكان الأحرى بالدولة أن تعتبرهم ضحايا قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، لكن الدولة استدركت لاحقاً مع تصاعد أصوات الضحايا للمطالبة بالعدالة وملاحقة الموظفين العموميين (وخصوصاً ضباط وزارة الداخلية المتورطين في ارتكاب أعمال التعذيب والتنكيل بحق الضحايا وعائلاتهم)، لذلك ومن بين ترسانة القوانين لتحصين المسئولين في نظام أمن الدولة، صدر في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 المرسوم بقانون رقم 56/2002، الذي وفر حصانة للموظفين العموميين المتهمين بارتكاب أعمال التعذيب والتنكيل من الملاحقة القضائية.
منذ صدور هذا المرسوم وقفت الجمعية ضده بقوة مطالبة بإلغائه لأنه ينتهك العدالة بكل المعايير، ويتعارض مع ما نص عليه دستور دولة البحرين ثم مملكة البحرين والاتفاق الدولي لمناهضة التعذيب الذي انضمت مملكة البحرين إليه منذ العام 1998، والتي تحرم جميعها ممارسة التعذيب وغيره من صنوف المعامله او العقوبة المسيئة أو الحاطة بالكرامة، ويعاقب عليها مرتكبها أو المتواطىء أو الساكت عليها من الموظفين العموميين، وتعتبرها جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولا تحصن بقوانين أو عفو أو غيره.
وقد تعاونت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان مع اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب في إطلاق الأخيرة عريضة شعبية من أكثر من 33 ألف توقيع وكذلك عريضة أخرى للجمعية وقعها ممثلو 24 جمعية أهلية وثمانية آلاف مواطن موجهة إلى جلالة الملك بتاريخ 16 مارس 2003 تعارض المرسوم بقانون 56/2001 وتطالب بإلغائه. ومنذ ذلك الحين فإن الجمعية تنظم سنوياً أسبوعاً للاحتفال بـ 26 يونيو/ حزيران لمناهضة التعذيب، وتؤكد فيه موقفها تجاه قانون 56/2001 وحق الضحايا في الإنصاف ومحاكمة الجلادين، كما أن الفعاليات الأهلية تنظم سنوياً اعتصاماً ومهرجاناً جماهيرياً أمام مكتب الأمم المتحدة في البحرين في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب في 26 يونيو واليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر من كل عام.
لقد شكل العمل على إلغاء مرسوم بقانون 56/2002، واعتراف الدولة بمسئوليتها عما لحق بالضحايا وتعويضهم مادياً ومعنوياً وإحقاق العدالة بحق الموظفين العموميين المسئولين عن هذه الانتهاكات محوراً مهماً لعمل الجمعية على جميع المستويات المحلية والعربية والدولية، سواء في إطار العلاقات مع الدولة، أو مع المنظمات الدولية أو مع المجتمع المدني.
ويمكننا هنا الاستدلال بما تمخض عنه اجتماع لجنة مناهضة التعذيب للأمم المتحدة التي ناقشت مدى تنفيذ مملكة البحرين التزاماتها بموجب الاتفاق في منتصف مايو 2005.
تقدمت مملكة البحرين بتقريرها الرسمي إلى اللجنة، من دون أن تعرضه على المنظمات الحقوقية الوطنية، كما يقتضي ذلك الاتفاق، والتي حصلت عليه بعد فترة متأخرة عن طريق موقع اللجنة الإلكتروني.
تقدمت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان بتقرير مواز كما تقدم مركز البحرين لحقوق الإنسان واللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب بتقرير موازٍ آخر إلى اللجنة، وجرت مناقشة التقارير الثلاثة مع مقدميها بحضور مجلس الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، إذ الجمعية عضو فيه، والتي رتبت اعتماد الأطراف الأهلية الثلاثة.
وعلى رغم السلبيات التي رافقت اجتماعات اللجنة من قبل الأطراف الأهلية من حيث عدم التنسيق في طرح أوراقهم، وما تبعها من خلافات ظهرت إلى العلن، فإن توصيات اللجنة إلى حكومة البحرين تعد انتصاراً للعدالة وإنصافاً للضحايا:
- تعديل المرسوم بقانون 56 / 2002 بحيث لا يوفر حصانة للمواطنين الرسميين المتهمين في قضايا التعذيب وإساءة معاملة السجناء والمعتقلين السياسيين.
- أن تحرص مملكة البحرين على ألا تسوغ القوانين المتوقع إصدارها وخصوصاً قانون مكافحة الإرهاب، ممارسة الموظفين العموميين المناط بهم إنفاذ القانون، للتعذيب أو التعايش معه أو التغاضي عنه، كذلك عدم انتهاكها حقوق المتهمين وخصوصاً من خلال تبادل المطلوبين.
- أن تضمن الدولة وصول الضحايا العدالة من دون عوائق.
خامساً: الجانب التأهيلي
من الواضح أن الجوانب المعرفية والقانونية لإنصاف الضحايا غير معروفة جيداً لدى غالبية الحقوقيين والمحامين البحرينيين وممثلي الضحايا ولذلك ترتب على الجمعيات الحقوقية وممثلي الضحايا التدرب في هذا المجال.
وبهذا الخصوص نظمت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان أربع فعاليات كما يأتي:
- ورشة تدريب الأطباء على تأهيل ضحايا العنف بالتعاون مع اللجنة العربية لحقوق الإنسان - باريس في الفترة من 10 إلى 13 ديسمبر 2002.
- ورشة عن المحكمة الجنائية الدولية بالتعاون مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والتحالف الدولي من أجل المحكمة الجنائية الدولية في يونيو 2004.
- ورشة عن العدالة الانتقالية بالتعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان في الفترة من 24 إلى 29 ديسمبر 2005.
- تنظيم اجتماع شبكة أمان لمراكز تأهيل ضحايا التعذيب في الوطن العربي بالتعاون مع المجلس الدولي لضحايا التعذيب - كوبنهاغن في الفترة من 6 إلى 11 ديسمبر 2005.
وباستثناء الفعالية الرابعة، فقد دعي إلى الورش الثلاث ممثلون عن الجمعيات الأهلية ولجان الضحايا والجهات الحكومية المعنية.
كما أن الجمعية شاركت في ورش وفعاليات عربية ودولية تناولت قضية ضحايا التعذيب والعنف والعدالة الانتقالية.
إن نضال الضحايا وأهاليهم ومناصريهم المستمر، وحسن تنظيم أنفسهم إذا ما اقترن بتبني قوى المجتمع الحية هذه القضية، ووظفت فيها المعرفة القانونية، مقترنة بقناعة من الدولة بضرورة إحقاق العدالة، فإن ذلك سيقود إلى إنصاف الضحايا، ما يعتبر شرطاً ضرورياً للإصلاح والتحول الديمقراطي الحق.
ناشط حقوقي
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1403 - الأحد 09 يوليو 2006م الموافق 12 جمادى الآخرة 1427هـ