في الأسبوع الماضي بعث المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي خطاباً إلى رؤساء السلطات الثلاث بالإضافة إلى مجمع التشخيص يفيدهم فيه بالخطوط العريضة للتعديل الذي أجري على المادة 44 من الدستور والقاضية بإعادة برمجة اقتصادات القطاع الأهلي عبر تحويل الأنشطة العامة إلى الخصخصة وبيع أسهم المؤسسات الحكومية بنسبة 80 في المئة من أسهم المصانع والمؤسسات الحكومية، وهو ما يعني انتقال دور السلطة الإجرائية من التملك والإدارة المباشرة إلى وضع السياسات والترشيد والإشراف، لإيجاد أكبر مساحة ممكنة من المواءمات الاقتصادية التي تتوافق وقواعد التجارة العالمية بشكل تدريجي.
خطاب المرشد أو الإبلاغ الدستوري تضمن الآتي:
1- الموافقة على تقسيط بيع 50 في المئة من الأسهم المشار إليها في المادة المعدلة من الدستور، والتي تم إبلاغ الشركات الاستثمارية في المحافظات المتشكلة من تعاونيات الأقضية بها.
2- تحديد قيمة الأسهم في البورصة، وانضمام الشركات الاستثمارية للمحافظات إليها بمساعدة الحكومة، والعمل وفقاً لقانون التجارة بهدف تنمية استثماراتها.
3- تخفيض قيمة الأسهم الممنوحة إلى شريحتين من ذوي الدخل المحدود بنسبه 50 في المئة على أن يتم تسديد أقساطها خلال فتره عشرة أعوام.
4- منح الشركات الاستثمارية أسهماً بالنسبة الخاصة بالمنضوين في عضوية الشركات التعاونية ذاتها.
5- بيع وشراء أسهم الشركات الاستثمارية للمحافظات في البورصة بمقدار تسديد الأقساط أو التخفيف الممنوح.
6- التعرف على الأشخاص من ذوي الدخل المحدود وفقاً للآليات العلمية الدقيقة والاهتمام الخاص بقاطني الأرياف.
7- تنفيذ المشروع يجب ألا يؤدي إلى ازدياد تصدي الحكومة لأعمال الشركات المشمولة للمشروع.
وإذا ما رجعنا إلى نص المادة الدستورية المعنية، يتبين أن النظام الاقتصادي لإيران يعتمد على 3 قطاعات: الحكومي والتعاوني والخاص، فالقطاع الحكومي يشمل الصناعات الكبرى كافة، والصناعات الأم، والتجارة الخارجية، والمناجم الكبيرة، والعمل المصرفي، والتأمين، وقطاع الطاقة، والسدود وشبكات الري الكبيرة، والإذاعة والتلفزيون والبريد والبرق والهاتف، والنقل الجوي والبحري، والطرق، والسكك الحديد وما شابهها... فإنها تعد من الملكية العامة، وحق التصرف فيها للدولة. والقطاع التعاوني يشمل الشركات والمؤسسات التعاونية للإنتاج والتوزيع، والتي تؤسس في المدن والقرى وفق القواعد الإسلامية. أما القطاع الخاص فيشمل جانباً من الزراعة وتربية المواشي والدواجن، والتجارة والخدمات، ما يعد متمماً للنشاط الاقتصادي الحكومي والتعاوني والقانوني في الجمهورية الإسلامية، وهو يحمي الملكية في هذه القطاعات الثلاثة مادامت لا تتعارض مع المواد الأخرى الواردة في هذا الفصل، ولا تخرج عن إطار القوانين الإسلامية، وبالتالي فإن التعديل يشكل تحولاً نوعياً في السياسة الاقتصادية الإيرانية على المستويين الداخلي والخارجي، وفي ذلك يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولاً: تشكل القطاعات الأولية (النفط، الغاز والزراعة) أهم دعائم الاقتصاد الإيراني، إذ تصل نسبة حضور النفط من الدخل القومي إلى 85 في المئة، وأدى ذلك لأن تلج الدولة كطرف مباشر في العملية الإنتاجية والتسويقية في المصافي وغيرها، على رغم دخول مئات الشركات الخاصة كمستثمر نشط في ذلك القطاع، وتسببت القيود التي كانت تفرضها المادة رقم 44 كعدم إلزامية منح الامتيازات من قبل الحكومة إلى المستثمرين الأجانب، وألا تزيد نسبة القيمة البضائعية والخدماتية المنتجة من قبل المستثمرين الأجانب، على نسبة قيمة البضائع والخدمات المتدفقة للسوق المحلية، لأن تتكلس أحياناً تلك الاستثمارات لتؤثر لاحقاً على الموازنة العامة للدولة، بل إن تلك المباشرة الإجرائية قد جعلت من الحكومة لأن تصبح كالبطريق في نشاطاتها الاقتصادية إذ إن لديها جسماً كبيراً لكنها تقوم على أطراف ضعيفة كما قال الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، وبالتالي فإن هذا التعديل سيسمح للشركات التعاونية والقطاع الخاص لأن تكون منافساً جدياً للحكومة في الدخول إلى ميدان النشاطات الاقتصادية والمشاركة في النشاطات التي كانت حكراً على الحكومة مثل صناعات السيارات والفولاذ والبتروكيمياويات والمصافي النفطية، على رغم أن التعديل المذكور استثنى الشركة الوطنية النفطية الإيرانية وسبعة مصارف كبرى منها البنك المركزي والبنك الوطني الإيراني وبنك تنمية الصادرات وهيئة الطيران والموانئ والصناعات الدفاعية والأمنية وهيئة الإذاعة والتلفزيون. التوقعات والدراسات التي أعدها مجمع التشخيص تشير إلى أن أكثر من 109 مليارات و700 مليون دولار ستنتقل من ملكية الحكومة إلى القطاع الخاص خلال السنوات العشر المقبلة، الأمر الذي يعني أن بعض القوانين والتشريعات المصاحبة يجب أن تتبدل، وأن توضع الخطط التي تمنع من حدوث تشققات في البنية الاقتصادية للبلد قد تفضي إلى أن تصبح الدولة عاجزة عن الإمساك بمفاتيح الأمور، وهي المخاوف ذاتها التي كان يثيرها اليمين المحافظ سابقاً.
ثانياً: على رغم أن القرار المذكور يشير إلى حدوث خطوة «رأسية» نحو تفكيك العمليات الاقتصادية التي استوت بعد مرحلتي «المركزة» خلال عقد الثمانينات و«الإعمار» خلال عقد التسعينات، فإن جزءاً من ماورائيات القرار تعكس ملامح جديدة في طريقة تعاطي النظام السياسي مع الحوادث ومع مراكز القوى في داخله، فالقرار جاء بعد دراسة مستفيضة من مجمع تشخيص مصلحة النظام (أعلى سلطة تحكيم في الجمهورية الإسلامية) الذي يقوم مقام المجلس الاستشاري للمرشد الأعلى للجمهورية، وإذا ما تم استحضار أن هذا المجمع يديره الشيخ هاشمي رفسنجاني الذي أعطاه آية الله خامنئي قبل أقل من عام تفويضاً مستلاً من المادة 110 من الدستور للإشراف على السلطات الثلاث، فإن الأمر يعني إعادة توزيع للأدوار في السلطة بغية التقليل من الحضور الكثيف والمباشر للتيارات اليمينية المحافظة وخصوصاً التعميريين الذين باتوا يسيطرون على المجالس البلدية والحكومة وجزء كبير من البرلمان، وبالتالي فإن اعتماد توصية مجمع التشخيص هو إعادة مركزة للشيخ الرئيس داخل غرفة صناعة القرار، الأمر الذي يعني تعويضاً له من جهة بعد خسارته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والحفاظ على التوازن داخل أروقة السلطة، وخصوصاً أن الكثير من القوى المحافظة التكنوقراطية والتقليدية عندما استبعدت من قبل التعميريين قامت بالالتفاف حول ذلك الإبعاد عبر جنوحها صوب موقع هاشمي رفسنجاني بغية استحصال دور ما في السلطة، وبالتالي فإن إعادة حضور رفسنجاني ستعني عودة تلك القوى أيضاً والتي تعتبر من الناحية الحزبية والسياسية الحليف الرئيسي للنظام، بل إنها ترى في نفسها الوريث الشرعي للنظام الإسلامي وذراعه الأمضى.
ثالثاً: خلال سيطرة اليمين المحافظ للمجلس النيابي الخامس كانت مشروعات الخصخصة المطروحة من قبل حكومة الرئيس محمد خاتمي، تلاقي اعتراضاً قوياً من تلك القوى، خوفاً منها على ارتخاء قبضة السلطة على المقدرات الاقتصادية التي ربما تسحب البساط من تحتها لاحقاً في أمور استراتيجية مصيرية، وبالتالي فإن إقرار النظام بصلاحية قرارات الخصخصة السابقة يعني انتصاراً معنوياً للقوى الإصلاحية التي كانت حاكمة طيلة 8 سنوات، وأيضاً ربما تكون رسائل إيجابية لتلك القوى لكي لا تبتعد كثيراً عن السلطة.
رابعاً: على رغم أن القرار جاء انتصاراً لمشروعات الخصخصة التي وعد أحمدي نجاد بإلغائها في مايو/ أيار الماضي، فإن الرجل أيضاً أنصف عندما أعطى اعتماداً من النسب المئوية المقطوعة من الأسهم التي ستحول للقطاع الخاص لاستخدامها في عمل الشركات الاستثمارية في المحافظات ولتوزيعها على شريحتين من ذوي الدخل المحدود، وهو ما يعني إرضاءً أو تسوية من نوع ما تم التوافق عليها بغرض التسهيل على الحكومة الحالية لكي لا تقع في مطب الإحباط وفقدان الصدقية أمام المواطن الإيراني الذي أعطاها الثقة بناءً على وعود معيشية واقتصادية يمكن التعويل عليها مستقبلاً
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1403 - الأحد 09 يوليو 2006م الموافق 12 جمادى الآخرة 1427هـ