انهيار العلاقات الأهلية في العراق بعد الغزو الأميركي وتقويض الدولة كشف ميدانياً ضعف البنى الاجتماعية وعدم قدرتها على تحمل أعباء الثقل «الخارجي». فالقوة الخارجية التي سقطت بالمظلات على سلطة مركزية تقبض على مفاصلها ومصادرها أسرة (عشائرية) كانت كافية لإسقاط دولة، وفتحت الباب لنمو تداعيات سياسية أسهمت في تخريب استقرار توازنات داخلية نهضت على أسس اجتماعية لم تستكمل نموها الطبيعي.
ما حصل ويحصل في العراق مسألة خطيرة تنذر المنطقة المحيطة بها بمشكلات لا حصر لها في حال لم تتدارك دول الجوار التي عقدت اجتماعها الأخير في طهران الأمور وتسارع إلى احتواء تلك الشرارات.
العراق الآن في حال احتقان أهلي ينذر بانفجار بركاني داخلي. والانفجار ليس مستبعداً على رغم كل الكلام «المعسول» أو «التطمينات» التي تصدر عن هذا الطرف أو ذاك. فالتصريحات الرسمية ليست دقيقة ولا تعكس فعلاً تلك الصورة الواقعية التي تظهر يومياً على شاشات التلفزة والفضائيات. والقوى السياسية التي تعتمد على القوات الأميركية لضبط الوضع الأمني تسهم بوعي أو من دون وعي في تزوير الحقائق وتبرير كارثة أخذت تتشكل معالمها على الأرض.
المعلومات الواردة من العراق تفوق الوصف. فهناك «أمراء حرب» يتوزعون على المناطق ويمارسون سياسة الخطف والقتل على الهوية. وهناك هجمات طائفية/ مذهبية متبادلة تقوم بها مجموعات مسلحة تمارس هواية الذبح وقطع الرؤوس وحرق المساجد وإتلاف البيوت والاحياء. وهناك بداية فرز طائفي/ مذهبي للسكان وعمليات هجرة وتهجير وانتقال عائلات من هذه المنطقة إلى تلك والعكس.
هذه الوقائع والمعلومات تحيطها القوى السياسية الحاكمة بالسرية وأحياناً تنفي وقوعها وأحياناً تقلل من خطورتها. ولكن المعطيات تشير إلى وجود حالات تفكك وهروب تشبه كثيراً تلك المشاهد التي تعرف عليها لبنان خلال بدايات حربه الأهلية.
ما يحصل في العراق أسوأ من لبنان. ففي لبنان هناك ما يشبه التوافق الضمني على طائفية البلد. وبسبب طبيعة تضاريس هذا الكيان السياسي الصغير تشكلت مناطقه تقليدياً من مجموعات أهلية يغلب عليها الطابع الطائفي أو المذهبي في هذه المنطقة أو تلك. فهذا البلد الصغير شهد تاريخياً الكثير من العنف الطائفي وتأسس تقليدياً في إطار احتواء تلك التوترات المذهبية التي كانت تندفع في محطات زمنية. ولأن هذا البلد يمتلك تجربة تاريخية في حروب الطوائف كان دائماً يعيد صوغ علاقاته السياسية في فضاء الانقسامات المتوارثة محكومة في دائرة دستورية مراقبة دولياً وإقليمياً.
الحروب الطائفية في لبنان ليست جديدة. فهذا البلد يملك في هذا الحقل خبرات كثيرة تفيض عن حاجات سوقه المحلية. فهو شهد حرب العام 1840 الطائفية التي أنتجت نظام الكانتونات (القائمقاميتين)، ثم حرب العام 1860 التي أنتجت نظام المتصرفية (الإدارة المحلية). وبعد الحرب العالمية الأولى أعيد توسيع المتصرفية بإدخال أربعة أقضية عليها فتحولت إلى «دولة لبنان الكبير» وهي تشكل الحدود السياسية للجمهورية الحالية. وفي ظل الجمهورية حصلت مشاحنات طائفية وتوترات مذهبية يصعب حصرها وتعدادها. ومكمن الصعوبة يعود إلى أن كل حركة سياسية في لبنان تفهم على أساس طائفي أو مذهبي... وغير ذلك يصبح من الأمور غير المفهومة أو الخارجة على قاعدة النظام العام.
هذا «النموذج اللبناني» الذي نصح بعض المراجع السياسية في العراق الأخذ به لتصحيح المسار العام في بلاد الرافدين شكل بداية توتر لعلاقات اهتزت لحظة سقوط بغداد وتقويض الدولة. فالنموذج اللبناني غير صالح للتصدير ويعتبر كارثة على أي دولة تريد الأخذ به. والعراق هو من الدول التي لا يمكن أن تنهض على قاعدة هذا النموذج.
ما يحصل في العراق يذكر بذاك «النموذج اللبناني» السلبي في علاقاته الأهلية. والأسوأ من ذلك أن لبنان يمتلك تجارب على هذا الصعيد ويتمتع بخبرة تسمح له بتصريف الفائض من العنف أو احتواء ما تبقى منه في أطر سياسية وقانونية. بينما القوى السياسية في العراق لا تملك تلك التجربة أو هذه الخبرة ولذلك تميل في تصريحاتها إلى نفي الواقع أو إعطاء صورة مغايرة عن مجرى الحوادث. والنفي في هذا المعنى أسوأ من الاعتراف. فمن يعترف بالحقائق يستطيع التفكير في الكارثة والعمل على وضع حلول لها، بينما من يعتمد سياسة النفاق فإنه يسهم في ترك الأمور تسير على هذا المنوال... وصولاً إلى الانفجار البركاني.
العراق اليوم أسوأ من لبنان في عز حروبه الأهلية. فهو الآن في حال خراب. والانهيار الذي بدأ بالدولة بعد الغزو الخارجي أخذ يمتد إلى علاقات أهلية استقرت بالقوة ولم تتطور بالفعل. وهذا ما أعطى فرصة للاحتلال الأميركي باللعب على التناقضات الموروثة دافعاً الأطراف المحلية إلى الاختصام الدائم ثم الاحتكام إلى «شريعة الغاب» لحل المشكلات الأهلية من خلال اعتماد أسلوب الطرد أو الإلغاء.
عمليات قطع الرؤوس وحرق الاحياء والمساجد والحسينيات ونسف المراقد والاشرطة المصورة التي اطلقت تصريحات تكفر هذه الفئة أو تدعو إلى قتال تلك الفئة، أنتجت قوى سياسية تحاول الاستفادة من الاحتقان الطائفي/ المذهبي مقدمة لتوليد مقاطعات يقودها «أمراء حرب» يرفضون عودة الدولة إلى بلاد الرافدين. هذه الحال المكشوفة تفرض على دول الجوار التي التقت في طهران المبادرة إلى وضع خطة احتواء للانفجار... وهذه الخطة من الصعب أن تنجح إذا لم تندمج فيها كل رموز العراق، وتتوافق على خطوة أساسية في برنامج طويل ومعقد يبدأ بطرد الاحتلال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1403 - الأحد 09 يوليو 2006م الموافق 12 جمادى الآخرة 1427هـ