هناك دلائل على الوعي المتزايد بين خبراء الاقتصاد بأن ما كانوا يبحثونه خلال السنوات الراهنة تحت اسم «التنافس» ليس الأمر ذاته المعروف في اللغة العادية. وعلى رغم أنه كانت هناك بعض المحاولات الشجاعة للرجوع بالنقاش إلى أرض الواقع وللفت الانتباه إلى مشاكل الحياة الفعلية، إلا أنه يبدو أن النظرة العامة مازالت تعتبر مفهوم التنافس المستخدم حالياً من قبل خبراء الاقتصاد بأنه الأهم. إنه يبدو من المتعارف عليه بأن النظرية المسماة ؟ـ»التنافس المثالي» تقدم النموذج المناسب للحكم على فاعلية التنافس في الحياة الواقعية وبأنه -إلى الحد الذي يختلف فيه التنافس الحقيقي عن ذاك النموذج -غير مرغوب فيه أو حتى بأنه مضر.
إن حل المشكلة الاقتصادية لمجتمع ما، هي دوماً رحلة استكشاف في المجهول، ومحاولة للوصول إلى طرق جديدة لعمل الأشياء بشكل أفضل مما كانت عليها سابقاً. ويجب أن يبقى الحال دوماً كذلك ما دامت هنالك مشاكل اقتصادية لابد من حلها؛ لأن جميع تلك المشاكل تنتج بسبب تغيرات طارئة تحتاج إلى التكيف معها، وفقط ما لم نتوقعه ونتحمل أعباءه يحتاج إلى قرارات جديدة. فإذا لم تكن هناك حاجة لمثل ذاك التكيف، وإذا علمنا في لحظة ما، بأن جميع التغيرات قد توقفت وأن الأمور ستسير إلى الأبد تماماً على ما هي عليه الآن؛ فإنه لن يكون هناك المزيد من التساؤلات حول استغلال الموارد ليتم معالجتها.
إن استحالة تتطابق حتى ظروف أي اثنين من المنتجين في واقع الحياة إنما مردها إلى الحقائق التي تتجاهلها نظرية التنافس المثالي من خلال تركيزها على توازن طويل الأمد والذي لا يمكن أن يتحقق في عالم دائم التغير. ومن أجل معالجة مشكلة الاستغلال الأمثل للموارد الكبيرة لكن القابلة للنفاذ فإن السعر في حال التوازن طويل الأمد والتي يجب أن تعنى به نظرية تبحث في تنافس «مثاليا» ليس فقط أنه لا علاقة له بالأمر، بل إن النتائج النهائية المتعلقة بالسياسة العامة والتي يؤدي الاستغراق في هذا النموذج إليها هي مضللة جداً بل وحتى خطرة.
إن فكرة بأنه تحت مفهوم التنافس «المثالي» يجب أن تكون الأسعار مساوية للكلف بعيدة الأمد عادة ما تؤدي إلى قبول ممارسات غير اجتماعية كالمطالبة؟ «التنافس المنظم» الذي سيضمن بعوائد كبيرة على رأس المال والمطالبة بتدمير القدرات الفائضة. إننا نجد عادة وبشكل مدهش بأن المناداة بالتنافس المثالي كنظرية، وتأييد الاحتكار كممارسة، متلازمان فعلاً بعضهما بعضا.
إنه في ظروفى لا يمكن أن يوجد فيها عدة أشخاص يعرضون السلع أو الخدمات المتجانسة ذاتها - بسبب الطبيعة المتغيرة دائماً لاحتياجاتنا ومعرفتنا، أو بسبب التنوع اللانهائي لمهارات الإنسان وقدراته-فإنه لا يمكن أن يكون الوضع المثالي في مطالبتنا بوجود سمات متطابقة لأعداد كبيرة لمثل تلك السلع والخدمات. فالمشكلة الاقتصادية تكمن في الاستغلال الأفضل للموارد المتوافرة لدينا وليس في الذي علينا فعله فيما إذا كانت الظروف مختلفةً عما هي عليه في الواقع، لذلك فإنه من عديم الفائدة التحدث في استغلال الموارد كما لو وجدت هناك سوق مثالية لذلك، أو لو كان ذلك يعني بأن الموارد يجب أن تكون مختلفة عما هي عليه، ولا جدوى في مناقشة ما الذي كان من الممكن أن يفعله شخص ما ذو معرفة مطلقة إن كان هدفنا هو الاستغلال الأمثل للمعرفة التي يمتلكها ما يتوافر لدينا من أشخاص.
الدرس العملي من كل هذا يكمن باعتقادي في أننا يجب أن نهتم بشكل أقل فيما إذا كان التنافس مثالياً في حال ما، ونهتم بشكل أكبر فيما إذا كان هنالك تنافس في الأساس. إن ما تخفيه نماذجنا النظرية حول الصناعات المتفرقة هو أنه في الواقع توجد ثغرة أوسع تفصل بين التنافس عن اللاتنافس أكثر منه بين تنافس مثاليا وغير مثالي. ومع ذلك فإن التوجه الحالي في المناقشة يتضمن عدم تحمل نقائص التنافس والسكوت عن منعه. إنه ربما قد يكون بإمكاننا تعلم المزيد عن الأهمية الحقيقية للتنافس من خلال دراسة النتائج التي تظهر عادة عند القمع المتعمد للتنافس بدلاً عن التركيز على عيوب التنافس الواقعي مقارنة مع ذاك المثالي، والذي لا علاقة له بالحقائق المتوافرة. إني أقول بشكل مدروس بأنه «حيث يكون التنافس مقموعاً بشكل متعمد» وليس فقط «حيث يكون غائباً»، ولأن آثاره الرئيسية تكون عادة فاعلة، وإذ كانت بشكل أبطأ، طالما لم يتم قمعه بشكل تام بمساعدة أو تحمل السلطة، فإن الأضرار التي أظهرت التجارب بأنها النتائج المعتادة لقمع التنافس تقع على مستوى يختلف عن تلك التي قد تسببها عيوب عملية التنافس.
التنافس بشكل أساسي هو عملية صياغة رأي؛ فهي ومن خلال نشر المعلومات تخلق وحدة وتماسك النظام الاقتصادي، والتي نفترض مقدماً وجودها عندما نفكر في النظام على أنه سوق واحدة. إنها تخلق الآراء التي لدى الناس بشأن ما هو أفضل وأرخص، وبسببها يعلم الناس على الأقل ما يعلمونه عن الاحتمالات والفرص التي لديهم في الواقع؛ فهي بذلك عملية تتضمن تغيراً مستمراً في البيانات، وبالتالي ستغيب أهميتها تماماً عن أية نظرية تتناول هذه البيانات على أنها ثابتة.
فريدرك هايك
حاصل على جائزة نوبل للإقتصاد للعام 197
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 1402 - السبت 08 يوليو 2006م الموافق 11 جمادى الآخرة 1427هـ