قبل يومين مرّت الذكرى الأولى للهجمات على أنفاق لندن نفذتها مجموعة تنتمي إلى الجالية المسلمة في بريطانيا. الهجمات شكّلت مفاجأة ونزلت كالصاعقة على مدينة خرجت من جوفها الملايين تستنكر الحرب على العراق.
أدت الهجمات إلى مقتل 52 من عابري السبيل. فهي لم تستهدف مراكز أمنية أو مواقع عسكرية أو أجهزة تدير دفة القتال التدميري ضد الشعب العراقي. فمن قام بالعمل لم يخطط لاستهداف هيئات يرى فيها قوة تتسلط على الدولة وتستخدمها أداة للحروب ضد الشعوب. فهذه المجموعة التي اتهمت بأنها نفذت الهجمات لا تفكر في السياسة كما يبدو، وربما لا تفكر إطلاقاً. فهي نفذت عملها غير آبهة بالنتائج والتداعيات وتلك الأخطار المترتبة عليها. فالمجموعة أصلاً رحلت وتركت سلبيات فعلتها على الأحياء وتلك الأقليات المسلمة التي تعيش في عشرات المدن البريطانية.
حصلت الهجمات قبل سنة وحتى الآن لاتزال الجالية المسلمة في بريطانيا تدفع ثمن ذاك العمل غير السياسي في جوهره. فالتفجيرات طاولت أنفاقاً يستخدمها أهالي مدينة تعيش فيها الكثير من الألوان والجنسيات والديانات. وسقط بسبب تلك العمليات العشوائية ضحايا تنتمي إلى ديانات وجنسيات مختلفة منها مسلمة بنغالية كانت متوجهة إلى عملها صباح السابع من يوليو/ تموز 2005.
مضى عام على تلك الهجمات وحتى الآن لا يُعرف السبب. وكل ما قيل هو تكهنات للإجابة عن سؤال: لماذا ارتكبت تلك الاعتداءات على أبرياء؟ فهناك من يحاول ربط المجموعة بتنظيم «القاعدة»، وأن قادة تلك الشبكة أعطت تعليمات مباشرة للقيام بالمهمة. وهناك من يقول إن المجموعة تصرفت على هواها واتخذت منفردة قرارها دفاعاً عن تعرض المسلمين لهجمات انغلوأميركية. وهناك من يوضح الصورة أكثر فيقول إن بعض المنفذين من أصحاب السوابق، وبعضهم كان معتقلاً بتهم السرقة والنصب والاحتيال وإن الشرطة كانت تراقبهم وتعلم بتحركاتهم.
كل هذه التكهنات أو المعلومات الملغومة وغير الواضحة خضعت للتحقيق والتحليل والفحص لمعرفة تلك الصلات الواهية مع «القاعدة» وتحديد الدوافع التي حركت مشاعر مجموعة من الشباب تعتبر «بريطانية» في هويتها وثقافتها ولغتها وتربيتها. ومنذ سنة حتى الآن لم تتوصل المراجع إلى تحديد سبب سياسي مقنع أو منطقي لاعتماده أساساً لتحليل هذه الظاهرة الغريبة. مثلاً: هل المجموعة مسلمة وقامت بعملها دفاعاً عن الإسلام، أم أن المجموعة «بريطانية» وتحركت باستقلال عن «القاعدة» ظناً منها أن فعلتها ستعود بالفائدة وتخيف الدول الكبرى وتمنعها من تكرار جرائمها ضد الشعوب؟
كل هذه الأسئلة أُجيب عنها بوجهات نظر مختلفة. وحتى الآن لم تتوافق الآراء على تحديد ذاك الدافع الوجيه الذي يرغم مجموعة من الشباب على ارتكاب مثل هذه الفعلة.
مرت إذاً الذكرى السنوية الأولى على تفجيرات لندن في 7/7. وبمناسبة الذكرى جرت مقابلات واستطلاعات رأي لرصد الاتجاهات السائدة في الجاليات المسلمة... وتبيّن أن 13 في المئة من المسلمين البريطانيين يعتبرون أن الشباب شهداء، وأن 2 في المئة يطمحون لإقامة «صلة ما» مع تنظيم «القاعدة».
هذا الاستطلاع المثير للجدل نُشر في يوم الذكرى. وفي اليوم نفسه حذرت سكوتلنديارد من وجود مجموعات أخرى تخطط لتنفيذ هجمات مشابهة. كذلك وفي ذكرى اليوم أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي) عن اعتقال شاب في بيروت بالتعاون مع الأمن اللبناني وآخر في هامبورغ كانا يخططان مع مجموعة منتشرة في سبعة بلدان للهجوم على محطة قطار (أنفاق) تربط نيوجرسي بنيويورك.
الإرهاب إذاً تعولم والمسلسل لم تنتهِ حلقاته. فالكل يحارب ويخطط ويتوقع والمشكلة تتفاقم وتنتشر دولياً. وحتى الآن لم يتوصل الفرقاء إلى تحديد سبب مقنع يبّرر تلك الأعمال أو الاحتمالات. في الشهر الماضي مثلاً ألقت الشرطة الكندية القبض على مجموعة تتألف من 13 مسلماً بتهمة التخطيط لارتكاب أعمال إرهابية في تورنتو وعلى الحدود الكندية - الأميركية. وفي الولايات المتحدة أعلنت أيضاً الشرطة في ولاية فلوريدا عن اعتقال مجموعة من 7 أشخاص قيل إنها كانت تخطط لتفجير برج «سيرز» التجاري في شيكاغو. وفي لندن أيضاً ذكرت الشرطة أنها داهمت شقة في شرق العاصمة وقتلت واعتقلت مجموعة كانت تخطط للقيام بهجمات «بيولوجية» في الأنفاق، وتبيّن لاحقاً أن «الإخبارية» كاذبة.
كل يوم تقريباً نسمع مثل تلك الأخبار من الشرق والغرب والشمال والجنوب. حتى الدول العربية دخلت على خط الرقابة والملاحقة والمشاركة في المطاردات ضد مجموعات «مجهولة» كانت تفكر أو تخطط أو تباشر بتنفيذ عمل ما ضد أهداف لا قيمة لها ولا وظيفة أمنية لاختيارها.
إنه عالم جديد ومجهول وغير معروف الهوية وغير محدد العنوان. وبغض النظر عن صحة تلك الأخبار المعلنة ودقة المعلومات التي تعلن بشأن هذه المجموعة أو تلك... يمكن القول إن العالم دخل مرحلة «معولمة» من المواجهات السياسية. والجديد في الموضوع أن تلك الشبكات المتفرقة تشبه كثيراً عصر «العولمة» في شكله الدولي الذي أخذ يظهر به إلى العالم بعد أن غزت شبكات الاتصالات والإنترنت العواصم والمدن والقرى والنواحي القريبة والبعيدة.
إنه عالم من الأديان والأقوام والجنسيات والألوان يعتمد شبكة من الاتصالات تقرّب المسافات وفي الآن تفكك العلاقات الإنسانية المباشرة بين البشر. فالشبكات «الإرهابية» هذه تشبه كثيراً شبكات الإنترنت المتوزعة في المعمورة. وعالم الاتصالات الذي يسهّل العلاقات بين الأفراد من عوالم مختلفة بات يباعد مشاعر البشر ويجعل الفرد يفكر باستقلال كامل عن جاره. فهذا الفرد «المعولم» يعيش بعزلة عن محيطه ويتصل بآخر بعيد عنه يعزز البرودة بينه وبين الناس، ويشجع أيضاً مجموعة على الانتحار في أنفاق لندن دفاعاً عن قضية بعيدة عنها وضد ناس أبرياء لا علاقة لهم بتلك «القضية» وإنما مرّوا مصادفة في ذاك المكان صباح السابع من يوليو.
إنه عالم جديد يتوافق كثيراً مع طبيعة العلاقات الإنسانية في عصر «العولمة» الأميركية. وشبكات الإرهاب تشبه هذا العالم الأميركي الذي يتسم بالبرودة والفردية وعدم الاكتراث بحياة البشر وعدم احترام حقوقهم ومصيرهم ومستقبلهم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1402 - السبت 08 يوليو 2006م الموافق 11 جمادى الآخرة 1427هـ