سألني الكثير من الأصدقاء البحرينيين بل والعرب، كيف استطعت أن أمكث سنوات طوالا من غير ضيق أو تبرم وتأفف إلى الحياة في الصين. وأردف بعضهم قائلا لقد زاروا الصين عدة مرات كرجال أعمال وسياح إبان الحقبة الشيوعية وفيما بعد ذلك وأمضوا عدة أيام أو أسابيع. لقد لاحظوا أن الصينيين لديهم حساسية قوية تجاه أي أجنبي مقيم بين ظهرانيهم أو عابر سبيل لبلادهم. وقالوا إنهم سمعوا مر الشكوى من الأجانب الذين يعملون في شركات أو لديهم استثمارات كبرى أو صغرى. إن هناك هاجسا مشتركا من سائر فئات المجتمع الصيني بعدم الارتياح والحذر الشديد والريبة من الأجانب، وعندما ألقيت محاضرتي خلال شهر يونيو/ حزيران 2006 في نادي الروتاري بالسلمانية عن العلاقات العربية الصينية سمعت الانطباع نفسه لدى بعض أعضاء هذا النادي الذين ترددوا على الصين. ونسي هؤلاء الأصدقاء أنني كنت أعمل دبلوماسيا لبلادي البحرين. وهناك فرق بين مسافر عابر ومقيم يؤدي عملا رسميا ويلتزم بمسئوليته وأمانته. ولهؤلاء وأولئك أورد هذه السطور عن انطباعي وأيضا عن ما عاناه السوريون عبر حقب تاريخية طويلة من استعمار وهيمنة أجنبية على بلادهم.
إنه بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في شهر أبريل/ نيسان من العام نفسه، كان أول عمل قمت به هو البحث عن مقر للسفارة وسكن لي ولأعضاء السفارة من الدبلوماسيين. كانت مهمة صعبة وتكمن صعوبتها في عدم توافر مكاتب عقارية متطورة لتأجير المكاتب أو دور السكن، كما هو الحال في كثير من الدول. ووجه الغرابة هنا أن بكين عاصمة مهمة وهي لا تقل أهمية أو مكانة عن العواصم الكبيرة في العالم، إلا أنني وجدت بعض المجمعات الجديدة المملوكة لشركات صينية حكومية مع شركات أوروبية. إلا أن إيجاراتها باهظة جدا، كما أن الفلل والشقق صغيرة المساحة، ولا يقبل على تأجيرها إلا مديرو الشركات الأوروبية والأميركية ذات الاستثمارات الكبيرة في الصين، والتي تقدر بالملايين، وقل مثل ذلك عن أرباح هذه الشركات. ولم يبق أمامي إلا أن أطرق باب مكتب الخدمات للدبلوماسيين في بكين، وذلك بحسب تعليمات إدارة المراسم بوزارة الخارجية الصينية، وهذا المكتب هو جزء منها. واقتبست الصين فكرة إقامته من الاتحاد السوفياتي طيب الذكر وتصدع هناك وذهب مع أدراج الرياح بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، إلا أنه بقي صامداً هنا في الصين يمارس عمله ولكن بصيغة صينية ومثل هذا ينطبق على انهيار الاشتراكية في دول أوروبا الشيوعية بعد زوال الشيوعية وبقائها قوية في الصين ولكن بخصائص صينية. إنه يوفر دور السكن ومقرات السفارات والمكاتب المختلفة للبعثات الدبلوماسية، كما يزود هذه البعثات بحاجتها من المترجمين من اللغة الصينية إلى اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وسائر لغات العالم، بما فيها اللغة السواحلية في شرق أفريقيا! وكذلك موظفي السكرتارية والخدم والسواقين والطباخين وكل ما تحتاجه البعثات الدبلوماسية من خدمات ضرورية. وتلك العمالة الصينية الضخمة في البعثات الدبلوماسية تنسق بصورة مستمرة مع مكتب الخدمات بشأن الأعمال المنوط بها على الوجه الأكمل. واعتقد جازماً أن هذا المكتب أدى دوراً مهماً وإيجابياً وقدم خدمات جليلة للبعثات الدبلوماسية، في وقت لم يكن في بكين مؤسسات أخرى مماثلة أو أفضل منها. وتم كل ذلك في حدود الإمكانات المتوافرة وعادة يوجه اللوم إلى موظفي المكتب في أنهم يعوزهم في كثير من الأحيان الوضوح في الرؤية وفي التعاون مع تلك البعثات الدبلوماسية وبصورة مباشرة ومحددة ومن غير لبس أو غموض. كما يعاب عليهم شئ من المماطلة والتسويف في التعامل ومن دون أن يضعوا في الاعتبار الوقت والجهد الضائع طالما أدى ذلك إلى تحقيق المزيد من المكاسب المالية. وأنا اعتقد أن هؤلاء ليسوا بدعاً في هذا السلوك فهو يسود كثيراً بين الشعوب في الشرق وحتى في الغرب. وتولد انطباع واعتقاد عند الأجانب أن الصينيين لا يكنون وداً لهم واحتراماً بل يتوجسون منهم خيفة وريبة وأنهم لا يطمئنون إليهم. وإن هذا الطبع يمثل فلسفة متوارثة منذ أحقاب بعيدة موغلة في القدم في حضارة الصين وتاريخها الطويل، وليس نتيجة لسنوات القهر والظلم والاستبداد الذي تعرض له الشعب الصيني خلال أحقاب طويلة من الاستعمار الأوروبي والياباني. ويزعم بعض الدبلوماسيين أن هذا الشعور تغذيه الجهات الرسمية تجاه الأجانب وعلى رأسهم أفراد البعثات الدبلوماسية. وكانت الصين تعتبرهم في الأزمان الغابرة جواسيس، وهذه حقيقة ناصعة لا تشوبها أية شائبة وقد أثبتت القرائن صحة ذلك
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1402 - السبت 08 يوليو 2006م الموافق 11 جمادى الآخرة 1427هـ