دفع انهيار الاتحاد السوفياتي العام 1989، وتفكك الكتلة الاشتراكية التي كانت ملحقة به، روسيا سنوات الى الوراء طوال أكثر من عقد من الزمن. وبسبب فساد السلطة السياسية حينها، تراكمت عليها الديون، وانخفضت قيمة الروبل الروسي بشكل حاد، وهجرها كثير من علمائها للاستقرار في دول أوروبية وأميركية متطورة، الأمر الذي أدى إلى تدنّي سمعة روسيا السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على المستوى العالمي، وباتت تصنّف في عداد الدول النامية، والملحقة بالسياسة الأوروبية والأميركية. ويحمل عدد كبير من الباحثين في الشئون الروسية سياسة غورباتشوف التي عرفت باسم «البريسترويكا» مسئولية الانهيار السريع لروسيا وللكتلة السوفياتية. فقد اقتبس مقولات غربية جاهزة للوصول بسرعة إلى الخصخصة والديمقراطية على النمط الغربي، واقتصاد السوق الرأس مالي. وكانت النتيجة أن دمر القطاع العام في بلد نسي شعبه تقاليد القطاع الخاص منذ أكثر من 70 عاماً. ذلك الوضع هو الذي يعزز اعتبار الخبراء إنّ يوم 25 مارس/ آذار 1996 كان مهماً في التاريخ الروسي المعاصر، إذ أكد صندوق النقد الدولي يومها قراره بمنح روسيا قرضاً يزيد على 10 مليارات دولار أميركي، وكانت روسيا قد حصلت، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، على قرار نادي لندن بإعادة جدولة كاملة لديونها حيال المصارف التجارية. وفي 24 أبريل/ نيسان 1996، اتخذ نادي باريس قراراً مماثلاً. وقد بلغت ديون روسيا الخارجية العام 1998 أكثر من 40 مليار دولار. وبالتالي فإن موسكو لا تستطيع إلاّ أن تخضع لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات العالمية الدائنة، والدول التي تقبع وراءها.
أكثر أهمية من تلك المساعدات كانت موافقة جماعة السبعة G 7 على إدخال روسيا إليها بصفة مراقب، فأصبحت بذلك جماعة الثمانية G 8، والهدف من وراء ذلك سياسي وليس اقتصادياً، إذ تبقى روسيا الدولة النووية الثانية في العالم ومن المهمّ جداً إبقاؤها تحت المراقبة. وأبرز تعبير عن الأهمية السياسية للمساعدات الغربية لموسكو كان اللقاء الذي جرى في موسكو بين رئيس الوزراء بريماكوف ومدير عام صندوق النقد الدولي ميشال كامديسّو، خلال الحملة الأطلسيّة على صربيا في أبريل/نيسان 1999 والذي وافق فيه هذا الأخير على دفع مبلغ 5 مليارات دولار لموسكو كجزء من المساعدة الموعودة. تلى ذلك وعلى الصعيد السياسي أيضاً، حضور روسيا مؤتمر الدول الآسيوية الذي انعقد في كوالالمبور عاصمة ماليزيا في ديسمبر/ كانون الأول 2005. فهي دولة أوروبية، لكنها دعيت لحضور المؤتمر بصفة مراقب مرشح للدخول الى منظومة الدول الآسيوية التي باتت تضم 16 دولة. وقد حسمت روسيا خيارها الجديد بالتوجه نحو الدول الآسيوية من دون أن تخفف من علاقاتها مع دول الغرب الأوروبي والأميركي. وطوال العام 2005 تحسنت علاقاتها مع الصين والفيلبين وكوريا الشمالية وفيتنام وغيرها.
وتعهدت روسيا بتقديم كميات كبيرة من النفط والغاز لدعم الاقتصاد الصيني وباقي الدول الآسيوية مقابل مدها بأحدث التكنولوجيا الآسيوية، وتشجيع الرساميل اليابانية للعمل في تحديث بناها وقوى الإنتاج فيها. ومن المتوقع أن تلعب مدينة فلاديفوستوك، وجزيرة سخالين، دوراً محورياً في تعزيز علاقات روسيا مع جميع الدول الآسيوية، وعلى مختلف الصعد، خلال السنوات القليلة المقبلة. وعلى الصعيد العسكري وفي سياق إصلاحاتها الاقتصادية، قامت الحكومة الروسية بخفض الإنفاق الحربي سنة 1992، كما حققت إنجازات عظيمة في خفض عدد العاملين في القوات المسلحة. وأجبر هذا العمل كثيرًا من رجال القوات المسلحة على البحث عن مساكن لهم ووظائف مدنيَّة. كما أغلقت روسيا في العام 2002 قاعدتها العسكرية في كوبا بسبب الظروف المالية، وفي 24 مايو/أيار 2002 وقع الرئيسان الأميركي بوش والروسي بوتين أثناء لقائهما في موسكو على معاهدة تقضي بتخفيض ترسانتيهما النووية بمقدار الثلثين، وأعلنا طي صفحة الحرب الباردة بينهما رسمياً. خففت مثل هذه الخطوات، وإن لم تكن اقتصادية، الكثير من المشكلات التي كان يئن تحتها الاقتصاد الروسي، وفتحت أمامه آفاقاً جديدة للانطلاق والتعافي.
وعلى خط موازٍ سارعت روسيا إلى الأخذ بالإصلاحات على الصعيد الاقتصادي، فمنذ العام 1992 تبنّى يلتسين ورئيس وزرائه، إيغور غيرار برنامج «العلاج بالصدمة» الذي يتضمّن إبعاد الدولة كلياً عن الساحة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص عبر مجموعة إجراءات، منها التحرير الكامل والسريع للأسعار والخصخصة على نطاق واسع وتحرير التجارة الخارجية وإغراء الرساميل والاستثمارات الأجنبية... الخ. لكنّ ردّ الاقتصاد السريع على هذه الإجراءات كان سلبياً: فقد أدى ذلك إلى تراجع متسارع لسعر الروبل؛ وتراجع الناتج الداخلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة العام 1992 ثم 22 في المئة العام 1993 و15 في المئة العام 1994 ثم 4 في المئة العام 1995؛ تراجع الناتج الصناعي في هذه السنوات على التوالي بالنسب التالية: 81 في المئة، 4 في المئة، 21 في المئة، وتراجع الاستثمارات 40 في المئة، ثم 12 في المئة العام 1995. أما في العام 1996 فقد بلغ تراجع الناتج المحلّي 6 في المئة. وبالتالي زاد تراجع الناتج المحلي والإنتاج الصناعي عن 40 في المئة أي بنسبة 10 في المئة سنوياً ما بين 1990 و1995، في مقابل نموّ سنوي بلغ 2 في المئة بين 1980 و1990.
لكن وفي محاولة لمنع الانهيار، قررت الحكومة الالتفات إلى قطاع الطاقة (إنتاج النفط تراجع إلى النصف في أقل من 10 سنوات) الذي يحتلّ حيّزاً واسعاً وفاعلاً في الاقتصاد الروسي (النفط وحده يشكّل 15 في المئة من صادرات البلد) عبر توجيهه إلى التصدير الخارجي البعيد، بعد اقتصاره على الاستهلاك المحلي والتصدير إلى المحيط القريب والدول الفقيرة.
أما الاستثمارات الأجنبية التي عُوِّل عليها كثيراً في عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق، فلم تتخطّ نسبة 4 في المئة من مجموع الاستثمارات. و10 مليارات دولار أو 12 مليار دولار التي دخلت إلى روسيا العام 1998 توجّهت كلها تقريباً صوب سندات الخزينة ذات المردود العالي(14). وكان لهذه المضاربات أسوء الأثر على الاقتصاد الروسي الذي كان يُهرب منه نحو مليار دولار شهرياً إلى الخارج (تهريبات، تحويلات شركات، مضاربات)
بوتين القيصر الروسي الجديد
لم يكن من المفاجئ أن يفوز فلاديمير بوتين برئاسة الفيدرالية الروسية في انتخابات 27 ماس/ آذار 2000. فالرجل صار عملياً «قيصر» روسيا الجديد منذ استقالة يلتسين في نهاية العام 1999. وفور استلامه لمهامه بموجب الدستور في السابع من مايو/ أيار 2000، عيّن حكومة تضم شيوعيين وإصلاحيين ومعارضين. كما عيّن على رأس الحكومة ميخائيل كاسيانوف نائب رئيس الوزراء المكلّف بالشئون الاقتصادية والذي بنى علاقات وثيقة مع الغرب والمؤسسات الدولية وانتزع في فبراير/ شباط 2000 اتفاقاً مع نادي لندن يخفف الدين الخارجي لروسيا بمقدار 5,10 مليارات دولار. وكان الحظ حليفاً لبوتين ففي العام 1999، وبفضل ارتفاع أسعار النفط، زادت قيمة الصادرات الروسية بنسبة 37 في المئة، في وقت يؤمن القطاع النفطي 30 في المئة من مجموع واردات الخزينة الروسية. وقد سجّل ذلك العام مؤشرات استثنائية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، اذ بلغ معدّل النمو 2,3 في المئة وزاد الانتاج الصناعي بنسبة 1,8 في المئة وبلغ معدّل التضخم 36 في المئة ورصيد الميزان التجاري 30 مليار دولار وحقق الروبل نوعاً من الاستقرار وتحسّنت جباية الضرائب. استفاد بوتين من هذا التحسّن الملموس في روسيا، من دون أن يكون له أي فضل في ذلك. والمعروف أن لهذا التحسّن سببين: ارتفاع سعر النفط، في سنة واحدة، من 10 إلى 30 دولاراً للبرميل الواحد؛ وتراجع سعر الروبل الروسي بسبب الانهيار المالي في أغسطس/ آب 1998 الذي حسّن تنافسية الصادرات الروسية في السوق العالمي، وقد أدّى هذان العاملان إلى ملء جيوب الخزينة الروسية التي كانت تعاني من عجز مزمن. وينبغي أن لا ننسى أيضاً تراجع البطالة وتزايد الإنتاج الصناعي الروسي (بنسبة 1,8 في المئة العام 1999 مقابل تراجع قدره 5,5 في المئة العام 1998، هذا يبرر سر اهتمام بوتين بالاستثمارات الخارجية، وسعيه إلى تطمين رجال الأعمال الأجانب إلى نياته التمسك باقتصاد السوق الليبرالي والانفتاح على العام والقيام باصلاحات تشريعية. وفي هذا الأطار، انكبّت وزارتا الشئون الاقتصادية والمالية على وضع «برنامج اقتصادي» على مدى 10 سنوات يهتم بالاستثمارات الأجنبية ويشدّد على «ضرورة تطوير القطاع الخاص وحرية الاستثمار بأقصى سرعة». وقد حققت حكومته انتصاراً واضحاً عندما حصلت على «إعادة هيكلة» الدين من قبل نادي لندن. ولكن تبقى المالية العامة هشة جداً، ومن أجل تحقيق التوازن الخزيني تعتمد الحكومة على قرض قيمته أربعة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، لكنه قرض معلّق من سبتمبر/ أيلول 1999 بسبب غياب الاصلاحات البنيوية في موسكو. هذا الواقع هو الذي بدأ بوتين خطوات إصلاحه التي توجها بالاجراءت الإصلاحية الجذرية التي اتخذها من اجل تعويم الروبل، والتي تضعه أمام خيارين: أما النكوص إلى الوراء والعودة إلى الحالة المزرية السابقة، أو التقدم نحو الأمام وتعزيز الإصلاحات الجديدة التي سيساعده عليها وللمرة الثانية الارتفاع غير المسبوق في أسعار النفط الذي يشكل حالياً ما يربو على 15 في المئة من الدخل العام للدولة الروسية. والذين يعرفون بوتين والقريبون منه يتوقعون منه الخيار الثاني وهومايراهن عليه الغرب ويخشاه في آن
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1401 - الجمعة 07 يوليو 2006م الموافق 10 جمادى الآخرة 1427هـ