شكلت ومازالت قضية ضحايا عهد أمن الدولة في البحرين التي امتدت 27 عاماً، محوراً أساسياً من محاور عمل الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان منذ إشهارها في 30 مايو/ أيار 2001.
ويمكن القول إنه مع اكتمال إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين إلى الوطن، وإلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، فإن ملف ضحايا عهد قانون أمن الدولة بدأ تدريجياً بفرض نفسه على مختلف الجهات (الدولة، القوى السياسية، والمنظمات الحقوقية)، كما أضحى تدريجياً قضية النخب السياسية والشارع.
طبعاً، فإن ملفاً معقداً ومتشعباً مثل ملف ضحايا عهد أمن الدولة لا يمكن أن يتبلور ويكتمل دفعة واحدة، كما لا يمكن للفئات المتضررة من عهد أمن الدولة أن تهب دفعة واحدة، في صف واحد مطالبة بالإنصاف، عدا أن خبرة القانونيين والحقوقيين البحرينيين لقواعد وتجارب العدالة الانتقالية محدودة جداً، لذلك يتطلب الأمر بعض الوقت لتنظيم الضحايا لأنفسهم واكتساب القانونيين والحقوقيين البحرينيين بعض الخبرات الضرورية، وكان لابد من تحرك الضحايا أنفسهم ليفرض ملف الضحايا نفسه على الأجندة الوطنية.
إن الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، وهي تعرض هذه التجربة والرؤية فإنها تعتبر نفسها مدافعاً عن جميع ضحايا عهد أمن الدولة خصوصاً وجميع ضحايا الوطن عموماً، من دون تمييز هؤلاء الضحايا من الرجال والنساء تبعاً لعقائدهم وانتماءاتهم. والجمعية هي واحدة من تشكيلات عدة تتبنى اليوم قضية إنصاف ضحايا عهد أمن الدولة سواء تلك التي تمثل الضحايا أم تلك المنبثقة عن المجتمع المدني وفعلاً فإن الضحايا وتنظيماتهم (اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب، ولجنة العائدين إلى الوطن) والجمعيات الحقوقية والتنظيمات السياسية وجمعيات أهلية متنوعة، وشخصيات وطنية، كلها معنية بهذا الملف، لكن تعاونها لم يرق إلى تشكيل ائتلاف وطني متماسك يضغط على الدولة لحل هذا الملف.
يشكل ضحايا عهد أمن الدولة قطاعاً كبيراً من أبناء الشعب، فضحايا الاعتقال والسجن السياسي بالآلاف، والعائلات المنفية بالمئات والشهداء بالعشرات، وإذا أضفنا إلى هؤلاء عائلاتهم التي لحقت بها أضرار متفاوتة، فسيرتفع العدد إلى عشرات الآلاف، لذلك فإن أولويات الضحايا المباشرة تختلف في كل مرحلة وتتفاوت من شخص إلى آخر، كما أن تبلور المطالب الجماعية لهؤلاء الضحايا أخذ بعض الوقت لأنه مرتبط بعاملين مهمين وهما: مدى تنظيمهم لأنفسهم ووعي ممثليهم بهذه المطالب. ولقد عملت الجمعية على مواكبة هذا الملف وأسهمت مع ممثلي الضحايا وتنظيمات المجتمع المدني، في تبني مطالب الضحايا، وحل بعض المطالب، وبلورة مشروع لإنصاف الضحايا تمهيداً لمصالحة وطنية.
أولاً: المطالب الملحّة للضحايا
في مارس/ آذار 1999 تولى صاحب الجلالة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة الحكم خلفاً للمرحوم والده، وكان ذلك مؤذنا بإخراج البلاد من نفق الحكم الاستثنائي المفروض على البلاد منذ حل المجلس الوطني في 26 أغسطس/ آب 1975، وكان من أبرز تجليات عهد أمن الدولة، مصادرة الحريات العامة، والقمع الشامل والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان، أما ضحايا تلك المرحلة فهم بالآلاف، من الشهداء والسجناء والمعتقلين السياسيين والمنفيين والمطاردين وأهاليهم، والملاحقين في حياتهم وأرزاقهم.
على امتداد أول سنتين من الحكم، جرى تدريجياً إطلاق سراح أعداد كبيرة من الموقوفين والسجناء السياسيين والسماح بعودة عشرات من المنفيين ولكن بتوقيع التعهدات المعروفة وإبداء الندم والتعبير عن الامتنان للحكم علنا أمام الصحافة بطريقة مذلة ومهينة.
لكن التحول الجدي في أجواء البلاد تمثل في تشكيل لجنة إعداد ميثاق العمل الوطني الذي كان مؤملاً أن يشكل وثيقة الإصلاح الشامل، والعقد الجديد بين الحاكم الجديد وشعبه، ترافقت مناقشات مشروع الميثاق في الديوان الأميري بمناقشات علنية وأشهرها ندوة نادي الخريجين، إذ أثيرت لأول مرة علنا قضية ضحايا مرحلة أمن الدولة والمعتقلين والمنفيين وضرورة حل هذه المشكلة قبل الاستفتاء على الميثاق، الذي يجب أن يتم في أجواء وفاق وطني.
وفعلاً شهدت الأشهر الأخيرة من العام 2000 إطلاق سراح المئات من المعتقلين السياسيين وبقي فقط المحكومون في قضية سترة، الذين صدر بحقهم عفو أميري خاص.
وفي فبراير/ شباط 2001 صدر المرسوم بقانون رقم 10/ 2001 الذي نص على العفو الشامل عن الجرائم الماسة بأمن الدولة الوطني وبموجب هذا القانون بدأ تدفق معظم المنفيين السياسيين وعائلاتهم طوال العام 2001، من هذه البداية يمكننا رصد مسار قضية ضحايا مرحلة أمن الدولة والنضال من أجل إنصافهم، وذلك في مسار متعرج لم يحقق الإنصاف ولا إحقاق العدالة التي هي شرط ضروري للمصالحة الوطنية المنشودة.
يجب علينا الانتباه إلى أن مرسوماً بقانون 10/ 2001 يؤكد أن الضحايا ارتكبوا جرائم بحق أمن الدولة وأنه جرى العفو عنهم، في حين كان يتوجب اعتبارهم ضحايا نظام أمن الدولة، ويجب اعتراف الدولة بما لحق بهم من ظلم وأن يكون إطلاق سراحهم وعودتهم من المنافي غير المشروط، مقدمة لتصحيح أوضاعهم وإنصافهم.
وسنرى لاحقاً أنه ولكي تحصن الدولة نفسها من أية مطالبة قانونية وتحصين الموظفين العموميين ممن ارتكبوا جرائم ضد هؤلاء الضحايا، من الملاحقة القانونية فقد صدر لاحقاً مرسوم ملكي بقانون رقم 56/ 2002، تفسيراً لأحكام المرسوم بقانون رقم 10/ 2001. وباستثناء المرسوم بقانون رقم 10/ 2001 والمرسوم بقانون رقم 56/ 2002 والأمر الأميري للعام 2002 بشأن إعادة من شملهم العفو العام بموجب المرسوم بقانون رقم 18/ 2001 بعودة من شملهم العفو إلى وظائفهم العامة لدى الحكومة وتصحيح أوضاعهم، فليس هناك من قاعدة قانونية تؤطر تعاطي الدولة مع قضية ضحايا مرحلة أمن الدولة.
على رغم عدم قيام الدولة بالإعلان رسمياً عن عزمها على معالجة ضحايا مرحلة أمن الدولة فقد كانت الأجواء التي تلت الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني بغالبية 98 في المئة، مؤشراً على الآمال الكبيرة لدى الضحايا خصوصاً والشعب عموماً في أن الاعتراف بفضل الضحايا في التحول الذي جرى، وإنصافهم مقدمة ضرورية للمصالحة الوطنية، والإصلاح الموعود الذي بشر به ميثاق العمل الوطني وأكده حاكم البلاد وولي عهده.
خرج الآلاف من السجون ورجع المئات من المنافي، يحدوهم الأمل بالدولة في تعويضهم عن سنوات الحرمان، ومساعدتهم على تجاوز أوضاعهم الاستثنائية وواجه هؤلاء واقعاً مراً وهو غياب أية خطة للدولة لحل مشكلاتهم وتوفير مصدر عيش كريم لهم، وتأمين متطلباتهم المعيشية والسكنية، فالذي حدث هو إصدار الديوان الأميري (الملكي لاحقاً) لتوجيهات في مطلع 2001 إلى إدارة الهجرة والجوازات لمنح جوازات سفر للعائدين والمطلق سراحهم، ثم صدرت توجيهات في العام 2002 إلى ديوان الخدمة المدنية ووزارات الدولة بإعادة من فصلوا من أعمالهم لأسباب أمنية ممن أطلق سراحهم، لكن من دون أن يشمل ذلك العائدين من المنافي، وأن يتم احتساب سنوات الفصل في مستحقات التقاعد وتضاف رتبتان إلى كادر كل منهم. كما تشمل هذه التوجيهات الشركات المملوكة بغالبيتها للحكومة، كما شمل الأمر الملكي إعادة الجنسية البحرينية إلى من أسقطت عنهم وتم إبعادهم إلى إيران وكذلك منح الجنسية لمن حرموا منها من ذوي الأصول الإيرانية.
وتدخلت الجمعية ونجحت في إرجاع عدد محدود لكل من قوتي الدفاع والداخلية، وواجه عدد من العائدين أو من المنفيين مشكلة إثبات الجنسية وتأمين جوازات السفر لهم ولعائلاتهم وساعدت الجمعية هؤلاء في إثبات جنسيتهم وحصولهم على جوازات السفر.
وتمثل عودة العسكريين المسرحين لأسباب أمنية نموذجاً لتعاطي الدولة مع ضحايا مرحلة أمن الدولة، على رغم صدور توجيهات من الديوان الملكي وديوان رئيس الوزراء، فإن تنفيذ ذلك اقتصر على عدد محدد فيما الغالبية لم يعودوا لوظائفهم في الوزارتين.
وبالنسبة للشركات التي تملك فيها الحكومة غالبية الأسهم، فإن تسوية أوضاع العاملين السابقين المفصولين لأسباب أمنية، اقتصرت على بعض الشركات (بابكو، بتلكو، ألبا وطيران الخليج)، وذلك من خلال جهود النقابات في الشركات المذكورة. أما باقي الشركات الفردية، فإنها تعتبر نفسها غير معنية أبداً بالموضوع.
أما رجال الدين الذين ازداد عددهم بشكل محسوس من بين المنفيين، فقد جرى استيعاب معظمهم في الحوزات العلمية الدينية والبعض من خلال المجلس الإسلامي الأعلى ودائرة الأوقاف الجعفرية.
يترتب على عدم إصدار توجيهات من الديوان الملكي أو ديوان رئيس الوزراء بخصوص حل الشق المعيشي للعائدين من المنافي، أن غالبيتهم يواجهون صعوبات في تأمين مصدر لائق ومضمون للمعيشة وباستثناء القلة الذين جرى استيعابهم في دوائر الدولة والشركات المذكورة (بابكو، بتلكو، ألبا وطيران الخليج)، فإن الغالبية تعمل في القطاع الخاص بشروط مجحفة، وخصوصاً أن غالبيتهم من كبار السن وذوي مهارات محدودة وقلة فتحت مشروعات خاصة بها، فيما هناك مجموعة من العاطلين وأخرى ممن لا تستوعبهم سوق العمل أو تجاوزوا سن التقاعد.
الشق الثاني من المطالب الملاحة هو توفير السكن لجموع المطلق سراحهم والعائدين، ولعل العائدين هنا يواجهون المشكلة بشكل أكبر. ترتب على من قضوا سنوات طويلة في السجون أو المنافي بدرجة أساسية والسجناء والمنفيين عموماً، أن وجدوا أنفسهم يواجهون معضلة السكن. فبالإضافة إلى صعوبة الحصول على سكن من خلال الدولة للآلاف ووجود عجز متزايد بين طلبات الخدمات الإسكانية عن طريق الدولة، وما تلبيه الدولة، فإن المشكلة أعقد بكثير لهؤلاء الضحايا غير المسجلين في قائمة منتظري هذه الخدمات، كما أن الكثير منهم فقدوا شروط الاستفادة من هذه الخدمات، إذ الكثير منهم بلا عمل وبالتالي من دون دخل ثابت، وكثير منهم تجاوز الخمسين وبالتالي لا يستحق هذه الخدمة والحقيقة أن الكثير من عائلات الضحايا يعيش أوضاعاً سكنية مزرية.
إن الجمعية مثلها في ذلك مثل عدد من الجمعيات الأهلية والسياسية وبرلمانيين دعمت حق الضحايا من السجناء السياسيين والمنفيين السياسيين السابقين في تصحيح أوضاعهم كجزء من جبر الضرر، وقامت الجمعية بمخاطبة الوزارات المعنية لحل المشكلات التي يواجهها الضحايا.
ثانياً: العلاج والتأهيل الطبي هناك العشرات ممن أصيبوا إصابات متفاوتة ممن يحتاجون إلى العلاج والتأهيل كما أن من بين ضحايا مرحلة أمن الدولة من السجناء السياسيين والمنفيين السياسيين بدرجة ثانية، وممن تعرضوا للتعذيب وظروف اعتقال قاسية، وممن عانوا أمراضاً مزمنة وعاهات مستديمة أو حالات اضطرابات نفسية تتفاوت في خطورتها، إضافة إلى هؤلاء هناك أقارب الشهداء والمعتقلين والمنفيين ممن تعرضوا إلى اضطرابات نفسية تحتاج إلى العلاج، كما أن هناك البعض ممن توفوا متأثرين بإصاباتهم في الحوادث أو الذين عانوا من أمراض مزمنة من جراء ظروف السجن.
ولقد كان ذلك حافزاً للجمعية للمبادرة إلى إقامة مركز الكرامة لضحايا التعذيب والعنف، كمركز مستقل مالياً وإدارياً، شكل الأطباء أعضاء الجمعية من مختلف التخصصات، طاقم المركز وهؤلاء متطوعون، وتلقى البعض منهم دورات تأهيلية في علاج ضحايا التعذيب والعنف الأسري في مراكز عربية وأجنبية متخصصة.
حصل المركز على ترخيص رسمي من وزارة الصحة بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، إذ يقوم المركز بفحص الضحايا وإحالتهم إلى مجمع السلمانية الطبي، لعلاجهم في إطار تفاهم بين المركز ووزارة الصحة، وينتدب المركز أطباء اختصاصيين لفحص ضحايا التعذيب أو العنف سوا في مراكز التوقيف والمستشفيات أو في عياداتهم الخاصة مجاناً.
وهنا يجب أن ننوه إلى أنه إذا اقترنت الإعاقة الجسدية أو النفسية للضحية مع مصاعب معيشة وسكنية، فإن ذلك يفاقم من وضع الضحية وعائلته.
ملاحظة: ورقة تمثل تجربة ورؤية الجمعية البحرينية لحقوق الانسان مقدمة إلى مؤتمر العدالة الجنائية الذي انعقد في عمان للفترة 25-27 يونيو/ حزيران 2006
ناشط حقوقي
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1401 - الجمعة 07 يوليو 2006م الموافق 10 جمادى الآخرة 1427هـ