المعركة الدبلوماسية التي يشهدها مجلس الأمن بشأن القرار أو «البيان الرئاسي» بمناسبة إطلاق كوريا الشمالية صواريخها البالستية (العابرة للقارات) تختصر الكثير من ملامح صورة الموقف الدولي في المستقبل. فالمعركة الآن تكثف تلك التوجهات العامة التي يحتمل أن تسير الدول الكبرى نحو اعتمادها في حالات مشابهة.
الموقف الأميركي مدعوماً من بريطانيا وفرنسا يسعى إلى إصدار قرار تحت «الفصل السابع» يشير إلى بنود إلزامية في التعامل مع مسألة الصواريخ الكورية. الموقف الثنائي الروسي - الصيني لا يمانع من صدور «بيان رئاسي» تحت «الفصل السابع» لكنه لا يدعم التوجه الأميركي الذي يدفع دول مجلس الأمن إلى مشروع قرار يشكل نقطة ارتكاز للولايات المتحدة لتطوير هجومها. حتى الآن لم تتوافق الدول الكبرى على صيغة نهائية لفكرة «البيان» أو «القرار» إلا أن عواصم تلك الدول متفقة على «الفصل السابع» وعدم إعطاء فرصة لكوريا الشمالية للتقدم في خطة استكمال مشروعها الهادف إلى تطوير صناعتها العسكرية (صواريخ وقنابل نووية).
موسكو أيدت الموقف السياسي الأميركي إلا أنها رفضت السير باتجاه تطويره نحو صيغة قانونية تعطي فرصة للولايات المتحدة بالتحرك في ذاك المجال الجغرافي تحت مظلة دولية. كذلك اتصف موقف بكين بالليونة ولم تعترض على المخاوف الأميركية وحلفاء واشنطن في المنطقة (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان) لكنها أيدت النهج الروسي المعتدل نسبياً في تعامله مع مسألة الصواريخ.
إطلاق كوريا لتلك الصواريخ البعيدة المدى كان الذريعة التي تمسكت بها واشنطن لنقل الملف إلى مجلس الأمن، وشكلت تلك التجربة نقطة انطلاق لحلفاء واشنطن للدفع باتجاه محاصرة احتمالات تطور الخطر في المستقبل. هذه الذريعة يمكن أن تتطور في مجلس الأمن وتتحول إلى قرار دولي ويمكن أيضاً أن تقف عند حدود الاستنكار ويعاد انتاجها في صيغة «بيان» قوي وعنيف وتحت بند «الفصل السابع». إلا أن الظاهر في الموضوع هو عدم اكتراث كوريا الشمالية بالاعتراضات الدولية. فالقيادة الكورية ترى أن مسألة تطوير الصواريخ واستكمال برنامجها النووي تعتبر حقاً لأنها تتعلق بسيادتها وما يتفرع عنها من ضرورات أمنية ودفاعية. مسألة الحق تبدو من الأمور غير الواردة في القاموس الأميركي. فواشنطن تنظر إلى مصالحها والمخاطر التي تهدد موقعها في شرق آسيا بينما لا تعطي الأهمية ذاتها لمخاوف دول تضعها الإدارة في خانة «محور الشر».
هذا الاختلاف في قراءة المخاوف يمكن مراقبة تطور صيغه القانونية في المعركة الدبلوماسية الدائرة الآن في مجلس الأمن. وفي ضوء نتائج تلك المعركة يمكن رصد اتجاهات المواقف العامة المتصلة بملفات أخرى وفي مناطق بعيدة عن شرق آسيا. وتحديداً الموضوع الإيراني والضغوط التي تمارسها واشنطن على طهران.
تجربة الصواريخ الكورية كانت مفاجأة في توقيتها. فهي جاءت في فترة حرجة تنتظر فيها الدول الكبرى رد إيران على «الحوافز» أو «الاجراءات التشجيعية» التي قدمتها. وطهران التي لم ترفض الاقتراحات (الإغراءات والعقوبات) ولم تقبلها، وبدورها وضعت الدول الكبرى في حال انتظار. فكل دولة تقترح عليها موعداً للرد وإيران حددت بدورها أكثر من موعد... وحتى الآن لا تبدو القيادة الإيرانية في عجلة من أمرها.
التجربة الكورية جاءت في فترة حرجة دولياً. وعلى رغم عدم نجاحها تقنياً، كما رددت المصادر العسكرية والمخابراتية الأميركية والروسية والأوروبية، فإنها كما يبدو نجحت سياسياً حين أثارت حالات من الاضطراب الأمني في منطقة تعتبر حيوية صناعياً وتجارياً.
كوريا في تجربة إطلاق الصواريخ شدت انتباه الدول الكبرى عن إيران والخليج إلى دائرة بعيدة عن المنطقة. وهذا ما أثار حنق الولايات المتحدة التي تحاول تركيز الأنظار على ملف طهران النووي ولا تريد فتح الأبواب على مجالات أخرى تعبر منها الرياح وتعصف بالتحالفات الدولية.
إيران في هذا المعنى أكثر دولة استفادت من تجربة كوريا الشمالية لصواريخها. فهي كسبت المزيد من الوقت وخففت الضغوط نسبياً عنها وتوزعت الأنظار وتشتّت التركيز على ملفها وبات الآن على الدول الكبرى المعنية بتلك «المخاطر» أن تقرأ أكثر من قرار وبيان.
المعركة الدبلوماسية الجارية الآن في مجلس الأمن مهمة للغاية لأن النتائج التي ستسفر عنها ستعكس في النهاية نسبة التوازنات الدولية وسترسم الخطوط العريضة للسياسة المقبلة وتحديداً تلك المرجح صدورها بشأن ملف إيران النووي. فالخلاصات القانونية والسياسية التي ستنتهي إليها الخلافات في موضوع كوريا الشمالية ستكون سابقة (عينة مصغرة) أو مقدمة عامة لتلك التي يتوقع صدورها بشأن إيران. فإذا توافقت دول مجلس الأمن على «بيان» ضد كوريا فإن إيران ستحصل لاحقاً على بيان مشابه وإذا توافقت على «قرار» فإن الأمر نفسه سيتكرر مع طهران. هذا احتمال. الاحتمال الآخر هو أن تعقد صفقة ضمنية تسمح لكوريا أن تستكمل برنامجها وتمنع إيران من الحق نفسه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1401 - الجمعة 07 يوليو 2006م الموافق 10 جمادى الآخرة 1427هـ