كل كتابة لا تضع المستقبل نصب اهتمامها، هي في الصميم من الانشداد الى الماضي، حتى وهي مشغولة بلحظتها... حاضرها... لا تعدو كونها مؤقتة في إقامتها.
الإقامة في المستقبل تحيل الحاضر الى جسر عبور، من دون أن تتنكّر الى ماضٍ أوصلها الى الحاضر، لكن القفزة الحقيقية ذات المعنى، تتحدد في التوغل في المستقبل، والبناء عليه، وتراكم الخبرة من خلاله.
في الكلام على ما ننتجه من شعر، هو في لب هذه الصفحة «ريضان»، لا يتجاوز معظمه ارتهانا الى اللحظة، الحال. مثل ذلك الارتهان لا يحقق للشعر أهم مفاعيله، وأدواره، وتأثيره، ومهماته: المستقبل، لأنه متجاوز للحظة... الحال... المؤقت.
جل الشعر المنشور في الصفحة - ولا أقول كله - لا يعدو كونه: بياناً، تقريراً، عنواناً، حادثاً من أي نوع. واختزال الشعر ضمن ذلك السقف الضيّق، يخرجه من حقيقته. وحقيقة الشعر هنا، تعني مستقبله، تعني رفضه للمؤقت، إذ كل بيان، تقرير، عنوان، حادث، هو في الذروة من المؤقت.
شعر الغَزَل في معظمه حال من حنين. بعضه حنين مرَضي، لا يخلو من إعادة انتاج نفسه. وإعادة انتاج الحنين، تدفعك دفعاً - ربما - الى تحايل على تغيير أشكال وأنماط ذلك الحنين، لكنه في عمقه... داخله... مضمونه، لا يعدو كونه نسخة كربونية. الأولى على تطابق مع الأخيرة. المرأة هي المرأة بخارجها، بالظاهر منها، اذ تختزل في الظاهر من مفاتنها، فيما قيمتها الكبرى والضرورية معتّمٌ عليها، وأحيانا، ليست حاضرة، وليست ذات جدوى في الكثير من ذلك الشعر. مازال كلامي على ما ينشر في هذه الصفحة «ريضان» وما عداها من صفحات يذهب في الاهتمام نفسه.
بهذا المعنى: الشكل... الظاهر، مآله الى المحو، ومآله الى الخضوع الى سنّة وقوانين المؤقت.
في اللحظة البدائية... الزمن البدائي، يأخذ الوصف شكل آلة تقفز على إمكانات ذلك الزمن في الرصد والاختزال. لذلك ظل الوصف في الشعر العربي القديم، واحداً من الأدوات/ الآلات التي نقلت انسان ذلك الزمن من المرئي في حدوده الظاهرة/الشكلية، الى حدود أتاحت لذلك الانسان الوقوف على ما بعد المرئي، ما بعد الظاهر، ما بعد الشكل.
هل فقد الوصف سحره، وتقنيته، وامكانات قفزه على طبيعة زمن آخر، لعبت فيه الآلة دورا محوريا في تراكم مخيلته وأحيانا تجاوزها، بل وأحيانا ثالثة ضمورها وتلاشيها؟ هل الزمن المقبل كفيل بإعادة تلك القيمة (الوصف) الى حيث جاءت؟ الى حيث بدائيتها؟
في الغرض المرسوم، والمخطط له سلفا، قبل الشروع في القصيدة، إهدار لقيمة الشعر من جهة، وتعريضه الى وصفات وملامح وأشكال جاهزة، من جهة أخرى، والشعر على النقيض من ذلك. على النقيض من الوصفة التي يتم تركيبها بمقادير، وعلى النقيض من الملامح التي يراد لها - ضمن مخيلة هي الأخرى محجور على حقها في الفضاء والانطلاق بأكثر من جناح - وعلى النقيض من الأشكال من حيث خضوعها هي الأخرى الى قوانين ومعادلات وحسابات جامدة.
في الذهاب الى الشعر، ثمة نسف لليقين. بمعنى آخر: لا شيء محددا بحسابات، أو وصفات، أو أشكال. كل شيء متروك لتشكّله الحر، وملامحه الحرّة ساعة الشروع في القصيدة، وما عدا ذلك، لا يعدو كونه استسلاما لإرادة ذلك اليقين، وما يصدر عنه.
كل كتابة أقامت في الذاكرة... الذاكرة القادرة على خلق مستقبلها، والعمل على تراكمه، هي بالضرورة كتابة مقيمة في المستقبل، بدءا من المتنبي، وليس انتهاء بـ «رامبو»
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1401 - الجمعة 07 يوليو 2006م الموافق 10 جمادى الآخرة 1427هـ