كل نَفَس هو علامة حضور. كل قدرة على التنفس في احتباس فضاءات مصادرة، رئة للعالم؛ على أقل تقدير، رئة لعالم لك فيه قدرة على الخيار بأن تقول «لا» في إشاعة «نعم» والترويج لها.
يتفرّس كل منا في التفاصيل من حوله. يتفرّس قدرته على الذهاب إلى حيز محاصر بندرة الخيارات. يتلمّس طريقه إلى خيار منه تبدأ سيرة إيقاعه في حركة العالم. إيقاعه في النأي بنفسه عن السراب؛ وصولاً إلى فعل السيْر والسِيَر التي تبحث عن خطى لن ترتضي بتكرارها ونسخها في الصورة السمجة والمسيئة.
في فعل الحياة لا يحتاج الواحد منا أن يراكم جنونه ليسجّل موقفاً استثنائياً. يحتاج إلى أن يعيد النظر في إمكانات عقله وتناوله ونظره وعلاقته الطبيعية مع غامض الأمور في السياسة - وهي ليست كذلك - وفي الوقت نفسه في تناوله ونظره وعلاقته مع ما يراه سطحياً وبدائياً وليست له قيمة أو أدنى بال.
وفي «سيناريو جاهز» توسّط «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» لمحمود درويش يذهب في افتراضه الجارح وافتراضه المؤذي. افتراض يجيّش كل استفزاز كتب له أن يكون في دائرة الغياب يستحضره كما لو أنه جزء من تفاصيل البيت ووقدة الحس: لنفترض الآن أنّا سقطنا، أنا والعدوّ، سقطنا من الجوّ في حفرة... فماذا سيحدث؟
لا أحد يملك حق إعادة النظر في الأساس والضروري من الحياة. تلك مساحة خارج دائرة التفاوض عليها؛ أو محاولة إخضاعها إلى ضرورة المزاج في تحولاته الكارثية والاعتباطية أحياناً. ذلك ما نبّه إليه أعرابي قبل أكثر من 1300 عام حين لقي أبا جعفر المنصور بالشام فقال له المنصور: أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت، فقال: إن الله لا يجمع علينا حشَفاً وسوء كيْل: ولايتكم والطاعون»! بحسب ما ورد في «تاريخ الخلفاء» لجلال الدين السيوطي. ص 265
لا أحد اليوم يمكنه أن يتذاكى أمام عالم ذهب حدّ كشف نيّة النبض في مساره. والدم في مجراه. لا أحد يمكنه اليوم أن يتعامل مع البشر برهان حضوره والتعويل على غيابهم الممتد والطويل. لا أحد باستطاعته اليوم أن يعيد رسم خرائط النوايا والتطلعات لمجرّد أنه يطل على شرْفة يتوهم من خلالها قدرته على خلق المصادفات برسم ما يريد.
العالم اليوم تجاوز الوهم وتعدّاه. كل كلام عن هيمنة بتلك المواصفات القميئة يعد استخفافاً واحتقاراً لقدرة الإنسان على فعل التأمل حتى وهو محاصر بفعل الذهول وما يتركه عرضة للغياب.
أعيد الكلام على علامة الحضور، ومحاولة الاستشهاد بقدرة كل منا على أن يكون في المقيم لا العابر وتجاوز مطبّات ومهالك أيضاً في طريقه إلى أن يكون عدواً للغياب؛ تمترساً وراء قيمته وحصانة تمنحها إياه بعيداً عن أي استعراض عضلات لا تعني القيمة لها شيئاً، مثلما لا يعني تهديد احدهم للفضيحة وقد استقرت في وجدان وأحياناً تسلية فراغ من هو في اللبّ من الفراغ أساساً.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3563 - الجمعة 08 يونيو 2012م الموافق 18 رجب 1433هـ
فكر وثقافة
عزيزتي الاستاذة سوسنة المااء : ما ذكرته هنا في مقالك مزيج بين الحكمة والشعر والمقالة والأدب والفكر . رائع هو قلمك وأنا من أشد المعجبين به. ابتعدي عن السياسة واكتبي في الثقافة فنحن نحب قراءتك شاعرة واديبة ودعي السياسة التي تصحر القلوب وتهلك القلب . شكرا لعطائك الدائم لهذا الوطن
رائع
الغياب لا ياخذنا الا للحنين لكن غياب من يوهمون الناس بحضورهم هو الاقسى . ساستخدم عبارتك التي تستخدمينها حين يعجبك شيء : المقال حده فن. حبيته .