العدد 3563 - الجمعة 08 يونيو 2012م الموافق 18 رجب 1433هـ

آداب التفوق... في سيكولوجية الحاسد والمحسود

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عندما تكون قريباً من شخصية كاريزمية فلن تشعر بالطاقة تتفجر منها فقط بل ان هذه الطاقة تنتقل إليك مثل العدوى الايجابية؛ لأن أمثال هؤلاء يعرفون إلى أين هم ذاهبون، فيأسرون الآخرين بتميّزهم وحماسهم. لكن هذه الشخصيات الجاذبة بالتأكيد لم تحقق نجاحاً عظيماً دون صعوبات، لذا قيل «لا يرمى بالحجر إلا الشجر المثمر»، وتفسيرها يسير وسهل، فالحجر أداة الحسّاد، والشجر المثمر نجاح المحسود.

ظاهرة الغيرة المهنية أو الحسد ترتبط غالباً بأجواء المنافسة. والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة، وهي المبادرة إلى الكمال الذي يشاهده الإنسان في غيره فينافسه حتى يلحقه أو يجاوزه، وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفس. والتنافس في فعل الخير من علو الهمة، وهي نوعٌ من المسابقة، قال تعالى: «فاستبقوا الخيرات»، (المائدة، 48)، وقال تعالى: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» (المطففين، 26).

والمنافس يختلف عن الحسود، فالحسود عدو النعمة متمنٍّ لزوالها عن المحسود، كما هي زائلة عنه، بينما المنافس مسابق النعمة فهو يتمنى تمامها عليه وعلى من ينافسه. والحسود يحب فشل وتعثر غيره حتى يساويه في النقصان. ويذكر العلماء أن مراتب الحسد أربعة، الأولى: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ولو لم تنتقل للحاسد. الثانية: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وحصوله عليها، الثالثة: تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه حتى لا يحصل التفاوت بينهما، فإذا لم يستطع الحصول عليها تمنّى زوالها عن المنعم عليه، والرابعة: حسد الغبطة، ويسمى حسداً مجازاً، وهو تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه من دون أن تزول عنه. هذا الاستثناء في تراثنا الديني لحسد الغبطة لعله قريب من المنافسة المحمودة، الذي يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبه التشبه بأهل الفضل.

وفي أيامنا هذه، تؤكد أدبيات الدراسات النفسية والاجتماعية على أهمية المنافسة باعتبارها مؤشراً دالاً على السواء النفسي في بيئة العمل، وينظر إليه كبديلٍ عن الغيرة المهنية باعتبار الغيرة سلوكاً سالباً. فالمنافسة لها دورها في دعم وتعزيز كفاءة وفعالية عمليات الإنتاج والأداء؛ لأن كفاءة وفعالية أداء منظمات العمل ترتبط بشكل رئيسي بدرجة تفاعل الفرد (الموظف) داخل منظمات العمل سواء كان هذا التفاعل مع الزملاء أو الرؤساء أو المرؤوسين من خلال بلورة الشروط والظروف المعزّزة لحالة الانسجام، ومن أهمها درجة الاستقلالية في العمل (work Autonomy) عن تأثيرات أو الإملاء الخارجي سواءً كان مباشراً أو غير مباشر من زملاء المهنة الواحدة.

الحديث هنا لا يقتصر على غيرة صغار القوم أو غيرة الضعفاء، بل هي محاولة شاملة لرصد تلك المشاعر السلبية التي تصيب الجميع، وحتى من نظنهم أقوياء ويستطيعون أن يمتلكوا زمام أمرهم أو من نحسبهم علماء يمنعهم علمهم وتقواهم عن الخوض في غمار هذا المستنقع السلوكي. نعم، ليس هناك أسوأ من غيرة أصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة والتجار وأهل العلم والثقافة والفكر، فهؤلاء رغم مسئولياتهم ورغم المنصة الاجتماعية والرسمية التي يمارسون دورهم من عليها، لكنهم في لحظات ضعفٍ يتصرفون بانحدار شديد فيتخبطهم مسٌّ من الغيرة.

في مثل هذه اللحظات من الممكن أن تتحوّل شريحةٌ من الناس إلى (تيوس)! يقول سعيد ابن جبير «استمعوا لعلم العلماء ولا تصدّقوا كلام بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها». نعم، الحسّاد تيوس الناس لأنهم لا يتحمّلون من يُشار إليه بعلمٍ أو فضلٍ أو مكانة. يقول تعالى «وفوق كل ذي علم عليم» (يوسف، 76) فلا يوجد هناك ذوات عارفة طالما هناك من هو أعلم، فلا غضاضة أن يكون كلّ واحد منا طالب علم، بل وحتى طويلب علم. فمن الناس من يكون شمعةً يحرق نفسه ليضيء للآخرين. لكن هناك من يتلذّذ بالنيل من الطامحين والإساءة إلى الناجحين والتقليل من شأن العاملين، وقد يكونون من الأقربين. وللأسف فإن «الغيبة الالكترونية» تنتشر هذه الأيام في المنتديات وبأسماء مستعارة، فالغرض والنية هو تتبع الزلات واقتناص العثرات. يقول سيد الأولين والآخرين «وهل يكبّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم». فما يضير لو قالوا: «نفع الله به ونفع بما فعل»؟ أو ما يضير لو قالوا «ما شاء الله»، و»تبارك الله»؟ يقول سبحانه وتعالى: «وقولوا للناس حسناً» (البقرة، 83)، و»قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» (الإسراء، 53). وجاء في الأدب الإنساني العالمي قول مارك توين «أستطيع أن أعيش شهرين كاملين على كلمة إطراء واحدة»!.

قبل الختام أوصي بهمسةٍ في أذن المحسود وتتعلق «بآداب التفوّق»، فليس هناك أسوأ من المتميّز المغرور. فقد يعمل سلوك الغرور على الحطّ من شأن الزملاء والأقران بأساليب متعدّدة، رغم أن بعض الزملاء والأحبة ساندوا هذا المتميّز لسنوات. وهو حتماً سيحتاجهم لسنواتٍ مقبلة، عندها لن يكون لديهم حافزٌ لمساندته اجتماعياً. والأسوأ أن يصل الحال إلى رفض العمل معه. يقول الفيلسوف طاغور «ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع». فالتودد إلى الناس نوعٌ من الكرم، والمبادرة إلى التواصل معهم لنزع الحسد من قلوبهم نوعٌ من الكرم والتغافل عمّا يقولون كرم، تقول العرب: «من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم».

كما اقترح أيضاً على الموظف المتميّز والمدير المتفوق، أن يستمزج التبسم والدعابة مع الزملاء والمرؤوسين لكسر حاجز الهيبة ولغة التكبر، لأنه بذلك يقدم لقاحاً معنوياً ضد الحسد. يقول الإمام علي (ع): «من كانت به دعابةٌ فقد برئ من الكبر»، وكريم الأصل كالغصن كلما تحمل ثماراً تواضع وانحنى، يقول الشاعر:

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤوسهن شوامخ

فما أجمل أن يكون الإنسان شمساً بين الناس يلتمسون منه دفئهم ويأنسون بالعمل معه ويتعلمون منه الجديد ويشتاقون إليه كلما غاب. هنا بالضبط يمكننا أن نرشف رحيق العشق ونتدثّر بألطاف الكلام: عظمة عقلك تخلق لك الحساد، وعظمة قلبك تخلق لك الأصدقاء. فهل نستطيع الجمع بين عظمة العقل وعظمة القلب ونحقّق غاية هذه السطور؟

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3563 - الجمعة 08 يونيو 2012م الموافق 18 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:12 م

      الاسلام كفيل بان يحفظ حقوق الانسان

      أجتهدت كل الأنظمة و خصوصاً الاجنبية على أن تضيع قوانين تكفل للإنسان كرامته و أنشأت جمعيات حقوق الانسان و طورت من دساتيرها و قوانينها العرفية و محاكمها لتبلغ العدل المطلق . و لكن الاسلام الدين الديناميكي الذي يدخل نظامه في أدق تفاصيل الحياة فكفل كرامة الانسان بعدم أستغابته و حفظ غيبته و عدم حسده و كل هذه الأخلاقيات الرفيعة لم تستطع جمعيات حقوق الانسان أن تشرعها و تقتض من مرتكبي الحسد و كذلك الغيبة و النميمة فالإسلام جمعية حقوق الانسان الربانية التي تعاقب من يرتكبها

اقرأ ايضاً