ناقشنا في الفصل السابق آلة الغرافة أو النزافة وكيف أنها ساهمت في تقليل الجهد واختصار الوقت في عملية ري الأراضي الزراعية، إلا أن هذه الآلة خاصة فقط بالآبار السطحية أو الأحواض التي يكون مستوى مائها قريباً من سطح الأرض. ومازالت هناك الحاجة إلى استخراج الماء من الآبار العميقة، وفي سبيل ذلك تم ابتكار «البكرة» التي قللت من الجهد المبذول في رفع الماء؛ إلا أن مشكلة ري الأراضي الزراعية الكبيرة لا يمكن أن يُحَل بالبكَرة فقط، فالطاقة البدنية للساقي لا تمكّنه من رفع كميات كبيرة من الماء من البئر. وهكذا استخدم دلو كبير لرفع الماء وأستعيض عن الطاقة البدنية للإنسان بالطاقة الحيوانية؛ إذ استخدم الثور عند البعض أو البعير أو الناقة عند آخرين، وفي العصور الحديثة استخدمت حتى الحمير. في هذه الحالة تم تقليل الوقت ورفع كميات أكبر من الماء بجهد أقل؛ ولكن ظهرت مشكلة جديدة وهي أعداد الأيدي العاملة، ففي هذه الحالة ستكون الحاجة لأكثر من عامل، فهناك شخص سيتولى أمر الثور وتحريكه، وشخص آخر، على الأقل، يتوجّب عليه تلقي الدلو وتفريغه في الساقية أو الحوض.
الحل الوحيد، إذاً، كان في تطوير آلة مركبة تعمل بالطاقة الحيوانية (كالثور مثلاً)، وترفع دلواً كبيراً والذي يتم تفريغه بصورة آلية دون الحاجة إلى شخص آخر يستقبل الدلو. هذه الآلة تم تطويرها بحيث يتمكن شخص واحد يعمل مع ثور واحد في رفع أكثر من دلوٍ واحد في المرة الواحدة، ويتم تفريغ تلك الدلاء بصورة آلية في الوقت نفسه. هذه الآلة المركّبة عرفت باسم «الزاجرة» أو «الجازرة» في البحرين وشرق الجزيرة العربية ودولة الإمارات وسلطنة عُمان، وفي مناطق أخرى من الجزيرة العربية تعرف هذه الآلة باسم السانية. هذه الآلة لا تستخدم الدلو الاعتيادي وإنما تم تطوير دلوٍ ضخم له فتحتان يعرف باسم الغَرْب.
وصف الغَرْب
الغَرْبُ والجمع غروب عبارة عن دلوً طويل يصنع من الجلد، يصل طوله لقرابة المتر أو أكثر، يكون متسعاً في جانب (الطرف العلوي) وضيقاً في الجانب الآخر (الطرف السفلي)، وبه فتحتان، فتحة في كل طرف، وتكون الفتحة كبيرة في الجانب المتسع وهي الفتحة التي يدخل منها الماء لتجويف الغرب، أما فتحة الجانب الضيق فتكون صغيره، وهي الفتحة التي يفرغ منها الماء، ويتم وضع «عراقي» بداخل كل فتحة، ويربط في كل عراقي خيط في وسطها. ولكي تحدث عملية التفريغ الآلية يمرر الخيط الذي ربط بالطرف العلوي فوق بكَرة على شكل عجلة يتم وضعها على عارضة مثبّتة على قائمتين نصبتا على جانبي فتحة البئر، أما خيط الطرف السفلي فيمرّر فوق بكَرة اسطوانية الشكل تكون أسفل من البكَرة الأولى وقريبة من سطح البئر. وهناك العديد من المسمّيات لتلك الأجزاء والحبال سنتناولها بالتفصيل في الفصول المقبلة.
الزاجرة الأكدية
عرفت تلك الآلة المركبة في البحرين وشرق الجزيرة العربية باسم الزاجرة والبعض يسميها جازرة، أما وفي دولة الإمارات العربية فتسمي يازرة (أي جازرة) وتسمى في بعض المناطق في رأس الخيمه بالزايرة (أي الزاجرة)، وفي عُمان تسمى زاجرة أو منجور. وكلا اللفظين الزاجرة والجازرة لم يردا في كتب اللغة والمعاجم التي أطلعت عليها. ويُرجِح الناصري أن الاسم زاجرة هو الأصح فهو مشتق من الزجر بمعنى الحث على السرعة؛ إذ إن عملية السقي بالزاجرة تحتاج إلى زجر الحيوان (الثور أو الحمار) الذي يسحب الحبل (الناصري 1990، ص 8 - 9). عند الوهلة الأولى يبدو هذا التفسير منطقياً، ولكن عند البحث أكثر في ألفاظ عملية الري بالزاجرة يصبح الأمر أكثر تعقيداً، على سبيل المثال في دولة الإمارات العربية يطلق اسم «جازر» أو «يازر» للشخص الذي يقوم بقيادة الثور الذي يجر حبل الزاجرة، وفي بعض المناطق في مصر يسمى الساقي الذي يتولى قيادة الحيوان الذي يحرك الساقية اسم «جازر» (أنظر ما يأتي) على رغم أن الساقية في مصر لا تسمى جازرة ولا حتى زاجرة، هذا يجعلنا نبحث عن فعل معيّن اشتق منه اسم الجازر يحمل معنى السِقاية. وبالبحث في المعاجم الأكدية نجد عدداً من الألفاظ القريبة الشبه لفظاً ومعنىً مع لفظة الجازر والزاجر والزجر والزاجرة، وقد رجح Holes أن الاسم الزاجرة من أصل أكدي (Holes 2006) ولكن دون أن يحدّد آلية معينة لاشتقاق اللفظ ولم يحل معضلة مسمى الجازر، ومن خلال ما ذكر في معجم جامعة شيكاغو للغة الآشورية والفرضيات المتناثرة في عددٍ من الأدبيات والأسماء الأخرى التي عثرت عليها للزاجرة، قمت بوضع نظرية توضح وجود آليتين لاشتقاق اسم الزاجرة من اللغة الأكدية؛ وعليه فالناتج وجود أسمين للزاجرة اشتقا من اللغة الأكدية، الأول هو الزاجرة أو الجازرة وقد اشتق من الفعل الأكدي زَراقُ بمعنى السقاية، والآخر الزرنوق وهو مشتق من الاسم الأكدي لآلة الري وهو زُرُقُّ.
الزاجرة والفعل الأكدي «زَراقُ»
في اللهجات العامية الحضرية في البحرين وشرق الجزيرة العربية ودولة الإمارات وسلطنة عُمان يقال زاجر وجازر أو يازر بمعنى الساقي الذي يكون مع الثور ليجر حبل الزاجرة أو الجازرة اشتقاق اسم الساقي هنا واضح فهو من اسم الآلة. وفي مناطق من مصر يطلق مسمى الجازر على «الولد الصغير الذي يعمل أجيراً لمدة فصل زراعي، يتولى خلاله تسيير البقرة أو الجاموسة المربوطة إلى الساقية لتديرها» (من مذكرات الأبنودي، صحيفة الجريدة الكويتية 13/9/2007م). وهذا يعني أن اللفظ منتشر في مناطق عديدة من الوطن العربي، وهذا اللفظ لم يرد في كتب اللغة ومعاجمها التي اطلعت عليها بهذا المعنى لكنه قريب من الفعل الأكدي زَراقُ zaraq بمعنى يسقي (CAD 1998، v. 21، pp. 65 & 167)، ومنها اسم الفاعل زارِقُ zariqu بمعنى الساقي (CAD 1998، v. 21، p. 68)، ومنه اسم الآلة زِرِقُ أو زُرُقُّ ziriq or zuruqqu بمعنى الساقية (CAD 1998، v. 21، pp. 134 & 167). ويمكن مقارنة اسم الساقي في اللهجات العامية وهو الزاجر أو الجازر الذي ربما اشتق من الاسم زارِقُ فحرف إلى زارِج ثم إلى زاجر وجازِر ومنه جاء اسم الآلة الزاجرة أو الجازرة.
الزرنوق والاسم الأكدي «زُرُقُّ»
في كتب اللغة ومعاجمها ورد اسم الزرنوق والجمع الزرانيق بمعنى القوائم التي تبنى على طرفي البئر ويعلق عليها البكرة التي يسحب عليها الدلو؛ إلا أن الزرنوق ورد بمعنى الزاجرة وذلك في كتاب «كتاب البلدان» لليعقوبي (توفي قرابة العام 897 م)؛ إذ جاء في وصف مدينة الرسول الأعظم (ص): «وبها آبار يسقى منها النخل والمزارع، تجرها النواضح وهي الإبل التي تعمل في الزرانيق» (دار إحياء التراث، 1988، ص 67).
والنص يفيد أن الزرانيق (جمع زرنوق) هي السواني أو الزواجر، وإن كان البعض يلتبس على هذا النص، فنص المقدسي (المتوفي قرابة العام 990 م) في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» واضح لا لبس فيه، ففي باب خصه للمصطلحات المترادفة بين البلدان ذكر المقدسي من مرادفات الزرنوق: الدولاب والحنانة (دار إحياء التراث، 1987، ص 39). والدولاب هو من مرادفات الزاجرة في البحرين ومنه اشتق اسم «الدولاب» للأرض المزروعة التي تسقى بالزاجرة.
إذاً فالزرنوق هي الزاجرة وقد سبق أن ذكرنا أن في اللغة الأكدية اسم آلة الري التي يستخدم فيها الدلو هو زُرُقُّ zuruqqu، ويمكن لهذا الاسم أن يتحول لاسم الزرنوق عن طريق المغايرة بإضافة حرف النون (سنتناولها بالتفصيل في فصول قادمة) وإشباع الضمة واو. ومما يزيد احتمالية ترجيح الأصل الأكدي وجود تشابه آخر في اسم أحد أهم مكونات الزاجرة في اللهجات الحضرية سابقة الذكر مع اسم آخر في اللغة الأكدية، وهو ما سنتناوله في الفصل المقبل.
السانية العربية
لقد عرف العرب الآلة التي تستخرج الماء من البئر واشتقوا لها اسم السانية، وكانوا يستخدمون الناقة لجر الحبل ومنها سميت الناقة السانية، والجمع السواني، وتسمى النوق التي يستسقى عليها باسم النواضح مفردها الناضحة، جاء في معجم «تاج العروس» (مادة سنى):
«السَّانِيَةُ: الغَرْبُ وأَدَاتُهُ ... وأَيْضاً: النَّاقَةُ التي يُسْتَقَى عليها، وهي النَّاضِحَةُ أَيْضاً، والجَمْعُ السَّوانِي ... وسَنَتِ النَّاقَةُ تَسْنُو سَناوَةً وسِنايةً: إذا سَقَتِ الأرضَ ... قال السّهيليّ في الرَّوْض: أَي دارَ حَوْلَ البِئْرِ والدابَّة هي السانِيَة».
العدد 3563 - الجمعة 08 يونيو 2012م الموافق 18 رجب 1433هـ