أكثر الذين يتحدثون عن «الطائفية» هم يمزحون. فالمزْحُ نقيض الجِدِّ كما جاء في المحكم، وما يقوم به هذا الكثير، لا يبعد عن ذلك الوصف أبداً: إنهم يمزحون. حين تقول بأنك مريضٌ فقط، فإن ذلك البوح والتأوُّه لا يأتيك بالشفاء ولا العافية، حتى ولو جَلَست الدهر كله، هذا إن أبقاك الدهر أصلاً. أيُّ استفزاز للمشاعر أكثر من أن نرى أطفالاً يُذبَّحون بِبَقرِ بطونهم، وآخرين بتهشيم أصداغهم، وآخرين بتفحُّمهم وشيِّهِم على النار والتفجيرات الآثمة، لكي نترك مزاحنا هذا؟
الطائفية اليوم، لا تحتاج أقلَّ من حرب تُشَنُّ عليها بلا هوادة. حربٌ تبدأ من الفرد، وتنتهي إلى الدولة. وما بين الفرد والدولة، محطات شريكة في المعركة، من جماعات وأقوام ومجتمع مدني، ومؤسسات، وشخصيات عامَّة وغيرها من المحطات. أقول هذا الكلام تهويلاً له، لأنه فعلاً أمرٌ مهول. لا يتخيَّلَنَّ أحدٌ أن قدحاً بكلمة طائفية واحدة تقال ضد فرد/ جماعة من الأغيار، أو بغمز طائفي باهت، لا تأتي بنازِلة، بل إنها قد تشعَل ناراً لا قِبَل لأحد بأوارها حتى لتكاد تحرق كل شيء.
هل تساءل أحدٌ منا ما الذي جعل أوروبا خلال الحروب الدينية (القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي) تتقاتل وتتذابح بتلك الطريقة القاسية؟ إنها بقياس الأمور ذاتها التي يُعمِلها الطائفيون في هذا العصر. مقتل هانس هوت في أوغسبورغ العام 1527، وقطع رأس أغسطينوس بادير في شتوتغارت بعدها بعامين، ومقتل أربعة ملايين فرنسي بين العامين 1560 - 1598 وإعدام ألفين من الأناباتيست قبلها (بحساب سكان ذلك الزمن) لم يكن سببه أكثر من مقولات مسيحية، ومماحكات كانت تتقاطر على قراطيس الكاثوليك والبروتستانت لا أكثر.
نحن اليوم، لا نريد أن نكرِّر ما وقعت فيه الشعوب الأخرى، لكي نتلمظ المأساة. لأن ذلك إن حَدَث، فهو بُله بامتياز. بل علينا أن نتعظ أكثر من السابق، لاعتبارات تتعلق بفوارق الزمنين، من حيث تعداد السكان، وتطور وسائل التدمير والاتصال، وبالتالي، تضاعف البلاء مئات المرات. فعندما يموت خمسة ملايين إنسان في فرنسا من أصل عشرين مليون فرنسي في ذلك الوقت على سبيل المثال، أي بنسبة 25 في المئة من مجموع السكان، فإن شعباً ما في هذا اليوم مؤهلٌ لأن يفقد 16 مليوناً من ناسه، إن كان تعداده 65 مليوناً، بحساب سكان هذا الأوان. وإذا كان سلاح ذلك الوقت، قد تطلب الإغارة المباشرة على الخصم لتصفيته، فإننا اليوم لا نحتاج لأكثر من مجموعةٍ من الأزرار الحمراء، لكي نبيد من خلالها مناطق مأهولة، بكامل حياتها من بشر وحيوانات ونبات. هذه هي الصورة.
اليوم، الجميع مُطالَب أن يقول ويفعل شيئاً في هذه المعركة المقدسة. الأفراد، عليهم أن يحبسوا أيَّ كَلِمٍ يؤدي إلى إشعال فتنة طائفية ولو بين شخصين، ويُربُّوا أبناءهم على ذلك وبإحكام. أيضاً، على جميع الذين يتسمَّرون خلف قائمة أزرار حواسيبهم، أن لا يلِجُوا المنتديات الطائفية، وأن لا يضيفوا كلمة واحدة، تشِعل نقاشاً هابطاً، يزيد أصحابه حقداً وضغينة. وأن لا يُكَنُّوا أنفسهم بمسمَّيات تحمل طابعاً احترابياً، استفزازياً، فيه من الترميز المهيِّج للمشاعر والعواطف.
أيضاً، على المؤسسات الاجتماعية، أيّاً كان موقعها وانتماؤها، أن تقلِع عن خيار التفاعل الاجتماعي ذي البعد الواحد، وعليها ومن الآن أن تجعل برامجها ذات نفع متعدد، وأن يتخالط في إداراتها ولجانها نسيج اجتماعي موزاييكي، من مذاهب وأديان مختلفة، وأن يكون حضورها على مساحة ديموغرافية ممتدة، وذات مشارب طائفية متنوعة، لكي تنفذ إلى أقصى نقطة جغرافية ضمن الامتداد الأفقي للمجتمع، الذي سيكون هو الآخر، قادراً على تحسس ذلك التواصل بطريقة أخرى وجديدة. وهو الأمر الذي ينسحب كذلك على عمل الشخصيات العامة في المجتمع.
أما مسئولية الدولة، فهي مسئولية محوريَّة في هذا الشأن. عليها أن تتذكر ما كان يقوله برتراند راسل: «يمكن للحكومة أن تتواجد بسهولة دون قوانين، لكن القانون لا يمكن أن يوجد دون حكومة». على الدول العربية والإسلامية، أن تبادر بشكل سريع، وبمزيد من العزم والحزم والمبادرة في التعامل مع الموضوع الطائفي كأولوية قصوى (لا أن تتجاهله فضلاً عن أن تستغله لدواعٍ سياسية). عليها أن تشرِّع ما يلزم من القوانين والأنظمة التي من شأنها أن تجرِّم كل ما له صلة بالمسألة الطائفية. تعامل حقيقي وليس كيديّاً.
قد يرى البعض أن هذه مثاليات، لكنها في الحقيقة، أقل ما يُمكن أن تعالَج به الطائفية. الدولة يجب أن تخشى الغرائز المثوَّرة دينيّاً بين شعبها وجماعاتها، وخصوصاً نحن نعيش في الجانب الشرقي من العالم، وهو الجزء الذي تكتنزه الروحانيات، والانغماس في الانتماءات الفرعية. فهذا الجزء من العالم، يمتاز بتنوعه العرقي والمذهبي والديني، وبالتالي هو أرض خصبة لأن يتداعى لأي رايات فتنوية قد تظهر، مرةً باسم الدين ومرةً أخرى باسم السياسة، وربما الأزمات التي مرَّ بها لبنان والعراق والجزائر، تعطينا مقاربة بشأن ذلك القول. وبالتالي، فإن ازدهار الدول في الشرق وتطورها، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمان الاجتماعي، وإشاعة ثقافة السلام والتصالح وحب الناس.
كان الحكيم والفيلسوف الصيني لاوتسي نصَحَ أتباعه مرةً قائلاً «أنا خيرٌ للأخيار، وخيرٌ لغير الأخيار، وبذلك يصير الناس جميعهم أخيارًا». انتهى. لم يترك الرجل أمَلاً لأحد لأن يتحوَّل إلى شخص شرِّير، فالشر (والطائفية جزء أصيل من ذلك الشَّر) نبذته الأديان الإبراهيمية الموحِّدة، ونبذته قبلها الغنوصية والزرادشتية، وعرَّفه الغرب العلماني على أنه من مؤشرات الجريمة. وقد كذب من قال: إن الشَّر يطفئ الشر، فإن كان صادقاً فليُوقد ناراً إلى جنب نارٍ، ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ كما قال لقمان الحكيم. هذه هي قاعدة التفكير والمنطق الإنساني الصحيح.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3561 - الأربعاء 06 يونيو 2012م الموافق 16 رجب 1433هـ
العلمانية بديل عن الطائفية
اعتقد من وجهة نظري الحل لمشكلة الطائفية هو قيادة نضال الشعب العربي عن طريق جمعيات سياسية علمانية لاتعتمد علي طائفة معينة وانما المواطنة الحقيقية هي المعيار وليست الطائفة
أعتقد ان المقال تحدث عن مسئولية الدولة وهي:
أما مسئولية الدولة، فهي مسئولية محوريَّة في هذا الشأن. عليها أن تشرِّع ما يلزم من القوانين والأنظمة التي من شأنها أن تجرِّم كل ما له صلة بالمسألة الطائفية. تعامل حقيقي وليس كيديّاً
السلطة هي المسئول، ولا داعي للهروب أ.محمد
على الرغم من إعجابي بأسلوبك وبمهاراتك الكتابية أ. محمد، إلا أنه يؤسفني القول أنك تمارس عملية هروب كلما تعلقت المسئولية بالسلطة، وفيما يخص الطائفية في البحرين فالحقيقة التي هربت منها تقول أن علاج الطائفية يكمن في علاج السلطة وحسب لأنها بإختصار سببها، أما بقية الأطراف كالأفراد والمؤسسات المدنية فلن يجدي تحميلها مسئولية غيرها/تحياتي
سلمت تلك الأنامل
الطائفية ليست مزحة ، لم و لن يربح من يُذكي نارها وهو أول من سيكتوي بنارها ... مقال اكثر من ممتاز و ما أحوجنا لأمثاله ... لا للطائفية
علي العكري