العدد 3561 - الأربعاء 06 يونيو 2012م الموافق 16 رجب 1433هـ

الإصغاء هندسة... المصادرة خراب

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

تفتقد السياسة العربية أهمَّ مقوماتها: الإصغاء. السياسة العربية اليوم تتكلَّم، ترسم تخطط وتتآمر أيضاً من دون أن تصغيَ لأصوات هنا وهناك؛ وخصوصاً إذا ترتب على ذلك نتائج يمكن معاينتها وتلمّسها على الأرض من حيث نتائجها الكارثية.

كأنَّ ذلك نتاج حال عامَّة تعاني منها المجتمعات العربية التي اعتادت وألِفتْ الكلام من دون أن تكلّف نفسها اعتياد الإصغاء؛ لذلك نتجت عنها مجموعة ثقافات تتفاوت من بلد إلى بلد بحسب، ومؤشر مساحة الإصغاء تراها عالية في قيمتها وما تقدّمه؛ أو هي ما دون ذلك بمراحل ومستويات. كأنّ المجتمعات تلك؛ بل هي كذلك مصنّع لتلك السياسة التي تعمل في وادٍ؛ وجماهيرها في وادٍ آخر.

أول ما يتيحه اعتياد الإصغاء هو القدرة على مراجعة ما يظنه أيٌّ منا ثابتاً في القناعة لا يمكن أن تغادر قواعدها أو تتمرّد عليها. الإصغاء بإتاحته لفرصة المراجعة يكسب الواحد منا دقته في تلمّس خياراته وبناء قناعاته؛ تلك التي منها يبدأ حركته في الوجود تأثيراً وتأثراً. إنه ديناميكية الفعل، تلك التي لا تتخذ من الانزواء والانكفاء موقفاً ينتظر أي منا دوراً يوكل إليه من خلالهما.

الذين حاولوا الفصل وفك الاشتباك بين الإصغاء في مساحة الثقافي وبين الإصغاء في مساحة السياسي كانوا يمارسون نوعاً من مزاج القراءة أو تحويرها والأهم من كل ذلك مزاج نظرتهم المنقوصة والمجتزأة التي لم تبرح كثيراً من صور ومشاهد ووقائع المكان والوقت اللذين لم يخفيا تبرمهما أيضاً من هوس الكلام والصراخ الذي لا ينتهي في مقابل مصادرة واحتباس وتحريم للإصغاء والتعامل معه باعتباره رخاوة خالصة!

تجنب الدخول في تفاصيل مساحات وحيّزات الإصغاء، ومحاولة الفصل بين أكثر من مستوى واهتمام وقطاع وفي فضاء الكتابة نفسه لا يخلو من تقعيد هشّ وتوصيف وهْم. ذلك قشر نظر كثيرين. الإصغاء هو الأساس ويطول أمره كل شأن والسياسة ليست بمنأى عنه. السياسة هي معنية به في الدرجة الأولى. معنية به لأن ما يطول الحياة من خلل عموماً وضيق أفق بالآخر هو نتاج عدم إصغاء السياسة والسياسيين وإصرارهما على أن صوتهما الأوحد والأجدر والأقدر على تمثيل الناس في آمالهم وأحلامهم وحتى أوهامهم وكوابيسهم.

أن تصغي يعني أن تكون لديك القدرة بقناعة وليس بعقدة المنح، على حق المقابل لك والمختلف معك والمتباين في رؤاه مع رؤاك. حقه في أن يقدم نفسه وأن يأخذ مساحته من الكلام والسرْد وحتى الهذيان. أن يفصّل ويختزل وحتى يتمادى ويتقاطع مع ما ترى.

عليك أن تصغي. تبرّمك من كل ذلك لا إصغاء فيه وإن تصنّعت ذلك بانتباهة فارغة وحضور لا شيء يدل عليه. تقريرك لثرثرة المقابل لك في كلام بدأ يكشف عن قدرتك وموهبتك في الذهاب إلى العمق في المصادرة من دون أن توحي بذلك؛ بل أنت بدأتها بذلك التقرير - باطناً - أن من يقابلك ذاهباً ومشغولاً في ثرثرته تجد يقينك بما يقول وعدمه أحياناً.

مأساتنا الصوت الواحد والكلام المكرور والتنظير الذي لا يرى ما قبله وما بعده. كأن كل اكتشاف وقبض على قيمة ومعنى من قبل أحدهم هو بمثابة فتْح مبين وعلى الآخرين أن لا يتجرأوا أو يقتربوا من التفكير في محاولة تجاوزها. كأن تجاوز فكرة أو معنى أو قيمة هو بمثابة تمرّد ما.

في السياسة، التجاوز في إعلان موقف ما خارج «ثرثرة» السياسي في الصالات والمؤتمرات الصحافية والوصفات الجاهزة، هو بمثابة خروج على نظام الحياة!

كيف يكون الإصغاء خروجاً على أي نظام إذا ما استثنيا الخروج على نظام تم إدمانه. نظام غلَبَة الصوت الأعلى، وعلوّه ليس بالضرورة أن يكون ذا قيمة بقدر قيمة تشويشه وتهديده المبطن وأحياناً الصريح بالتصفية. التصفية هنا تملك قدرتها على التعدد والتنوع والخروج بتبريرها الذي لا يكلف زمناً لا يتجاوز جزءاً من ضمير الثانية!

الإصغاء هندسة. المصادرة خراب. هي الثرثرة بعينها وإن لم تنطق حرفاً.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3561 - الأربعاء 06 يونيو 2012م الموافق 16 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:18 ص

      الأذن والسماعة، سماعون وسمتمعة

      الأصوات كثيرة ومتعددة منها موسيقي ومنها كلام .. وفي الكثير من الأحيان تتداخل مفاهيم الكلمات في ما بينها ولا يجد الإنسان نفسه إلا حائرا وعليه أن يبحث عن معناها الأصلي. فكل مفهوم له من فهمه وكيف فهمه.
      فالمعلوم أن القريب من حاسة السمع: الاستماع، والسماع، وكذلك الإنصات والإصغاء، لكن ما الفرق بينها؟
      للموسيقى أم لكلام الناس تصغي الأذن؟

اقرأ ايضاً