العدد 3559 - الإثنين 04 يونيو 2012م الموافق 14 رجب 1433هـ

التراث اللامادي... من خطر التهديد إلى ضرورة التجديد

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

قرّرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن يكون «التراث اللاماديّ» موضوعاً للدورة الثانية للجائزة العربية الكبرى للتراث للعام 2013. ففي أيّ إطار يتنزل هذا القرار؟ ولماذا الآن بالذات؟

يعتبر مصطلح «التراث اللاماديّ» مصطلحاً جديداً نوعاً ما على غير المتخصصين وهو ما يفرض توضيحه تقريباً للمفاهيم، واستدعاء الإشكاليات المتعلقة به تعميقاً لدراسته.

إن التراث هو كل شاهد في عصرنا الحاضر على هويّة الأمّة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وقد أسهب الكثير من الباحثين والمؤرخين في الحديث عن صور التراث العربي والإسلامي المادي، إلاّ أن الجزء الآخر المكمل لهذا التراث والمتمثل في التراث الحضاري اللامادي لم يحظَ بالاهتمام والدراسة والعناية والاستدامة بالقدر الذي شهده التراث الماديّ. ومن أبرز تجليات هذا التراث اللامادي وأشكاله المتعارف عليها: الفلكلور الشعبي، الموسيقى، الأساطير، القصص والألعاب الشعبية، المهن والحرف التقليدية وحتى النكتة والفكاهة... وغيرها.

ولقد تصاعد عالمياً مفهوم التراث اللامادي من أجل ذلك عُقدت الملتقيات على غرار الندوة الفكرية في المغرب ديسمبر/ كانون الثاني 2010 بعنوان «التراث الشفهي اللامادي: أيّ دور في التنمية المستدامة؟» تحت شعار: «التراث الثقافي اللامادي بين الأصالة وتحديات العولمة». ومن جهتها تحركت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وأحدثت منذ سنة إدارة للتراث لتؤكد المكانة التي يستحقها التراث بشقّيه المادي واللامادي. وكانت اليونسكو قد بدأت منذ العام 2003 جهودها في حماية تراث الإنسانية اللامادي وعياً منها بضرورة حماية التنوع الثقافي في مواجهة العولمة، لكن ما المخاطر التي تهدد هذا التراث اللامادي؟

أكد الباحثون في هذا المجال أن العلاقة الوطيدة التي تربط الإنسان بالتراث الثقافي بمختلف أشكاله المادي واللامادي عرفت نوعاً من الفتور خلال السنوات الأخيرة، كما أكدت مديرة إدارة التراث في «الألكسو» حياة قطاط القرمازي أن نمطية العولمة تهدد التراث اللامادي بالاندثار حيث إن الكثير من الصناعات التقليدية مهددة بالتلاشي: ففي عصرنا هذا أصبحت ظاهرة العولمة تسير في اتجاه تنميط مختلف مظاهر الحياة اليومية لدى الأفراد والجماعات. كما اعتبر جورج طريف أن هنالك فئات من المجتمع لا تعير أهمية لهذا التراث مفسراً ذلك بالتطور التكنولوجي السريع وانخراط هذه الفئات في عصر العولمة الحديثة ما خلق شرخاً في العلاقة بين الشيوخ من جهة والشباب والأطفال من جهة أخرى حيث عوّضت الصور المتحركة حكايات الجدات التي كانت تنمّي الخيال لدى الأطفال. ويؤكد جورج طريف أن روح هذه المجتمعات تكمن في تراثها الحضاري والثقافي اللامادي: فكيف السبيل إلى المحافظة عليه؟

إن مراقبة هذا الإرث الثقافي المتنوع والمحافظة عليه يعتبر أحد أهمّ المبادئ للتنمية المستدامة؛ ذلك أن التراث اللامادي في نظر لويزة غاليز الباحثة بالمركز الوطني الجزائري للبحث في عصور ما قبل التاريخ والإنسان، هو «طاقة متجددة» ما يستدعي تشجيع البحث والابتكار في مجال حماية التراث اللامادي حيث لايزال البحث في هذا المجال مهمّشاً ومن هنا جاء عنوان الدورة الثانية للجائزة العربية للألكسو: «التراث اللامادي» تشجيعاً على البحث اليوم لإيجاد الحلول قبل فوات الأوان خاصة بعد تلاشي بعض أشكال هذا التراث. ولا يقتصر الأمر على حماية هذه المفردات والعناصر التراثية اللامادية، وإنما البحث في قابليتها للتحديث والعصرنة بعيداً عن تثبيتها في مغلفات جامدة للفرجة وأخذ الصور التذكارية وذلك ما سعت إليه الجهات المختصة بإبراز القيمة التاريخية والحضارية وكذا الغنى والتنوع الذي يتميّز به التراث العربي اللامادي في العديد من الأقطار العربية مؤكدين على ضرورة جمعه وتدوينه والعمل على توظيفه في الخطط والاستراتجيات التنموية.

إنّ عملاً دؤوباً ينتظر فرق المختصين عربياً وعالمياً لجمع مختلف مظاهر التراث اللاماديّ وتصنيفه، ومن ثم استثمار الوسائل التكنولوجية الحديثة من أجل نشر هذا التراث والسعي إلى توظيفه في خدمة الأهداف التنموية، ولابد في هذا السياق من الاغتذاء بل والاقتداء بتجارب بعض الدول فيما يتعلّق بخلق مقاربة وظيفية للتنمية التراثية، ذلك أن إغفال المكون الثقافي عند بلورة الاستراتيجيات والمخططات التنموية من شأنه أن يؤدي إلى نفور الناس وعدم اندماجهم لتفعيل تلك المخططات خاصة إذا تعارضت مع خصوصياتهم الثقافية المحلية.

إن الخطر الذي يتهدد التراث الثقافي اللاماديّ لبعض المجتمعات وتقليل فرص استدامته والحفاظ عليه يدعو التحالف العالمي لحماية التراث إلى تنظيم سلسلة من حملات التوعية المحلية وتطوير محتوى إعلامي قويّ لتشجيع المجتمعات المحلية للمساهمة في حماية التراث الثقافي اللامادي والعمل على توثيقه. وتحقيق أهدافنا المنشودة لا يقع عل جهة معينة وإنما على مختلف شرائح المجتمع ومؤسساته الأهلية والحكومية ابتداء من المدرسة ومروراً بالمؤسسات الخاصة والعامة ذات الصلة وكذلك الجامعات وانتهاء بوزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم. ولعل في إدخال التراث اللامادي في المناهج التربوية المدرسية والجامعية ما يساهم في حفظ التراث من الضياع والاندثار فقط وكذلك في تحديثه وعصرنته وفق منهج علمي وبحث معمّق ورؤية إبداعية خلاّقة تنتقل بنا من التراث إلى الذاكرة إلى المستقبل.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3559 - الإثنين 04 يونيو 2012م الموافق 14 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 4:10 م

      اقناع الناس باهمية وجدوى التراث يستدعي منا اولا غربلة هذا التراث وتنقيته من الشوائب والوتنيات لكي لا يعارض تعاليم دين الاسلام...لابد من اتخاذ موقف من الطقوس الوتنية والافكار المقيدة للفكر الحداثي القائم على اعمال العقل والتخلص من الخرافة ...

    • زائر 9 | 7:49 ص

      ماهو دور التراث في التنمية المستدامة ؟؟؟؟

    • زائر 7 | 4:11 م

      موضوع جديد

      شكرا أستاذ تنقصنا مثل هذه المواضيع في صحفنا المحلية وأعتقد أن فيها جانبا تثقيفيا وتحسيسيا كبير

    • زائر 6 | 8:33 ص

      من التراث إلى الذاكرة إلى المستقبل.

      تسلسل مهم يجب تفصيله ومزيد توضيحه

    • زائر 5 | 8:31 ص

      أيّ دور للتراث اللامادي في التنمية المستدامة؟»

      هناك علاقة كبير بينهما هما متكاملتان

    • زائر 4 | 7:23 ص

      نعم ضرورة حماية هذا التراث

      إن الخطر الذي يتهدد التراث الثقافي اللاماديّ لبعض المجتمعات وتقليل فرص استدامته والحفاظ عليه يدعو التحالف العالمي لحماية التراث

    • زائر 2 | 12:58 ص

      أنت في بحث متواصل فشكرا

      جهدك في البحث عن المواضيع المهمة واضح
      نحن فخورون بك في صحيفتنا وفقك الله

      يعتبر مصطلح «التراث اللاماديّ» مصطلحاً جديداً نوعاً ما على غير المتخصصين وهو ما يفرض توضيحه تقريباً للمفاهيم، واستدعاء الإشكاليات المتعلقة به تعميقاً لدراسته.

    • زائر 1 | 12:03 ص

      التراث والاستدامة

      شكرا على هذا الموضوع القيم والمهم وأرجو أن يقع الالتفات إلى التراث اللامادي والمحلي من قبل وزارة الثقافة في البحرين

اقرأ ايضاً