العدد 3558 - الأحد 03 يونيو 2012م الموافق 13 رجب 1433هـ

حين يأكل المثقف اللحم البشريَّ ميتاً

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لست أدري كيف لأحدهم أن يأوي إلى نوم وقد قوّض قيماً وعلاقات وروابط؛ من دون استناد إلى ما يدفعه أو يبرّر له ذلك؟ لست أدري كيف يمكننا أن نطالب بتخفيف الوطء عن أداء أنظمة وطبيعة تعاطيها مع مواطنيها في الوقت الذي يكثر الوطء ويزداد ثقله من قبل بعض المطالبين والمحتجين والمعترضين على مثل ذلك الثقل بكل ما يمثله من منظومات همّها الخنْق والاجهاز على كل روح لا تجد فيها ولي نعمة الهواء.

قبل سنوات في منفى شبه إجباري بطبيعة تعاطي السلطات مع كل عودة إلى الوطن، كنت ومجموعة ممن بدأوا حراك تشكيل توجّه جديد في الكتابة في دولة خليجية أقمت فيها لأكثر من عقدين، نرى في الساحة الثقافية والإبداعية في مملكة البحرين النموذج العصيّ على التجاوز والتكرار. كنا مهووسين حد الغياب بالنصوص قبل الأسماء. لم تكن تعني لنا شيئاً تفاصيل وما بعد ذلك النموذج. كنا بمنأى عن الحساسيات المقلقة والمهلكة في الوقت نفسه. تنتقل تجمعاتنا ورؤانا من إمارة إلى أخرى وإذا لم يسعفنا الوقت نكمل ونواصل تلك الرؤى في مؤتمرات عربية ودولية يحدث أن يكون أغلبنا مشاركاً فيها. لم تخل الساحة هناك من أكل بعض اللحم البشري ميتاً في حالات نعدّها نادرة ضمن دائرة الغيْرة وتصفية الحسابات الشخصية؛ ولكنها كانت نادرة بحيث لا نشعر بها إلا قليلاً، وكانت مستهجنة حد تقلّص دائرة الأصدقاء في منتدياتهم الأسبوعية في أكثر من مكان كلما لاح لهم رأس فتنة أو متضور جوعاً إلى ذلك اللحم. لم تكن الساحة مثالية؛ ولكنها ظلت محتفظة بعافيتها الأخلاقية حتى هذه اللحظة كما أزعم. ربما لأن السياسة بمعناها في التآمر والتحزّب المرضي لم تجد لها موطئ قدم عميقاً بحيث تحتوي وتتحكم في مسارات النظر والحياة عموماً؛ ذلك أن السياسة في الراهن اليوم مفسدة؛ بل تتجاوز المفسدة بمراحل.

رحلة العودة إلى الوطن والإقامة التي كانت برسم انتظار ما سيسفر عنه التحول الجديد في البلاد، مع توجّس وريبة لم تفارق القناعات، كشفت عن صورة مغايرة ظلت قارّة وثابتة، ويمكن القول إنها في اللبّ من السذاجة عن الساحة الثقافية هنا، يوم أن كنت هناك؛ من دون أن أتعرّض إلى مسبباتها وتشخيص تداعياتها. ما حدث أن النموذج العصيّ على التجاوز والتكرار، تعاني ساحته من تكتّل ومجاميع أمراض لا حصر لها. كان ذلك قبل زلزال المطالبة بالحقوق الذي تُدفع ضرائبه لعقود مقبلة ما لم تلحْ شجاعة موقف في الأفق.

في تجربة لم تخل من مجازفة، كانت محاولة الاقتراب والدخول في تفاصيل وحراك الساحة الثقافية محفوفة بالكثير من قلق وتوجّس التجربة؛ تجربة تأكيد فرادة النموذج العصي على التكرار؛ فيما الوقت الذي أقنعت فيه نفسي ومعي آخرون من الداخل والخارج ممن قُيّض لهم العبور هنا لأخذ ملمح عن واقع الحال وحقيقته، بربح اكتشافها الغالب أكثر من خسارتها، يختصر وقتاً من الأذى للروح وإلحاح النأي بنفسك كلما تواردت وشَخُصَتْ أمامك الشواهد في وجبات أكل اللحم البشري ميتاً.

أكرر، كان ذلك قبل ارتداد قناعات وثوابت بِـ 180 درجة؛ من دون أن تكون مضطرة إلى ذلك. أتاحت وسائل الاتصال الجماعي فرصة متاخمة الرمز لعقد جلسات أكل اللحم البشري في حفل شواء ليس بالضرورة أن يكون في الهواء الطلْق. مثل تلك المجاميع تجد في الهواء الطلْق وسيلة كشف لنواياها؛ ثم إنها تعوّدت خنق ما سواها ولا يستقيم ذلك مع الأمكنة والفضاءات المفتوحة.

في الخريف الذي يصر على أنه سيد الفصول في موازاة ربيع من المفترض أن تكون له حصة من دورة الوقت، تبدّت أمراض لن تجدها حتى في جمهوريات الموز. أمراض لا تكتفي بالزحف على مناعة الإنسان لخلخلتها وتركها عرضة للاحتضار والنزف والاستباحة؛ بل تجاوزت ذلك بكثير؛ بحيث وجدت أقلام وأسماء ترسخّت في المشهد الثقافي والإبداعي وقت السعة وارتضاء الشعوب بقَدَرها وتعايشها القسري مع كوابيس تحيط بها وتحاصرها بالجملة، أن حصص أكلها اللحم البشري بعيداً عن رعاية رسمية تمولها، يعدّ ضرباً من عدم الاكتراث بصفاقة ووقاحة الربيع العربي الذي تجرأ على أخذ حصته بعد تحييد أو اختطاف لدورة الزمن والفصول!

رؤيتك بوضعك مسافة بينك وبين موضوع الرؤية، تتيح لك وضوحاً وتقريباً وتأملاً أكثر من التصاقك به. العين تحتاج إلى مدى تُفرغ فيه سعتها وإمكاناتها في الفحْص والدراية والقراءة. الالتصاق لا يتيح لك ذلك دائماً؛ لكن لا يمكن تعميم الأمر؛ فثمة وقائع وشواهد وممارسات ومواقف واصطفافات على الأرض لا تحتاج معها إلى ذلك الحرص واليقين من مسألة الرؤية عن بعد. مثل كل ذلك يتيح لك فرصة أن تقرأ بشكل مباشر لا يقبل المواربة واقع الحال بعلاّته ومنغّصاته وتآمره. إنه نص إدانة شخصي يُقدّم لك من دون خيار منه ومن دون أن تمعن في التأويل وما بعده.

أعلم أن لا ساحة ثقافية اليوم بمنأى عن ذلك؛ لكن أن تستدعي ما هو بعده يكشف كل ذلك عن حقيقة وواقع أنها ساحات للتذويب والخلخلة. ساحات مفتوحة على المقابر أكثر من كونها ساحات مفتوحة على الحياة. ثم إن النص الذي يهمل ويتغافل عن حدود أخلاقه وقيمته الانسانية لا يختلف كثيراً عن ساحة لتجميع النفايات!

هل أقف عند هذا الحد من الرؤية وما أظنه تشخيصاً؟ من السخف أن يحدث ذلك. هذا الوطن مرشّح إلى خوض مزيد من العبث؛ عدا الحديث عن أمل في حيز وساحة مثقفين ابتلي أكثرهم باستعداده لأكل اللحم الحي والميت والذهاب إلى كنوز الوشاية بشهوة بالغة!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3558 - الأحد 03 يونيو 2012م الموافق 13 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:42 ص

      العنوان

      العنوان ينطبق بشكل ممتاز على مجزرة الحولة التى ارتكبها النظام الفاشى العلوي في سوريا وموقف الكثير من انصاف المثقفين منها ، شكرا للكاتب الفاضل

اقرأ ايضاً