أمور كثيرة تغيرت في «الشرق الأوسط الكبير» منذ أن تسلم باراك أوباما مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة. باكستان لم تعد مهددة بالسقوط والانقسام إلى أقاليم أقوامية كما كان يخطط «تيار المحافظين الجدد». إيران تمر الآن في صدمة سياسية تحتاج إلى وقت حتى تستفيق من تبعاتها وتموجاتها وتداعياتها. سورية تعيش لحظة «دوار سياسي» وتحاول قدر الإمكان التمسك بنقطة توازن حتى لا تقع في المكان الخطأ. لبنان حقق مفاجأة في الانتخابات النيابية وتحولت «انفلونزا الانتخابات اللبنانية» إلى ما يشبه «انفلونزا الطيور» في تأثيراتها السيكولوجية على المحيط الجواري والأقاليم البعيدة. فلسطين لاتزال تعيش في حال من التبعثر السياسي بين تهديد وجودي من جانب أقصى التطرف الإسرائيلي وبين تعثر المفاوضات في القاهرة وهي مفاوضات تنتظر استقرار الصورة الإقليمية حتى تستمر وتنجح.
كل هذه المشاهد الملونة في خريطة «الشرق الأوسط الكبير» كانت مضمرة حين أقسم أوباما اليمين الدستورية في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي. فهذا الرئيس جاء إلى البيت الأبيض بغالبية كاسحة حين أعطاه الشارع الانتخابي ذاك التفويض المطلق للتغيير. والتغيير في عالم قابل للتحولات السريعة يعطل أحيانا البرامج وأحيانا يضغط باتجاه تعديل التصورات. فهل أوباما بصدد إعادة النظر بمنهج رؤيته الذي انتخب على أساسه أم أنه سيستمر في إستراتيجيته «الشرق الأوسطية» التي أعلن عنها بعد فترة من جلسة القسم؟
هناك متغيرات حصلت أو هي في طور الحصول. والتعديل في زوايا الصورة يعني أن أوباما سيضطر إلى تمديد فترة الانتظار قبل أن يبادر إلى إجراء اتصالاته الدبلوماسية حتى تستقر ميدانيا المشاهد المتسارعة التي يراقبها ويلاحقها في باكستان وإيران وسورية ولبنان وفلسطين.
الاحتمال المرجح أن أوباما سينتظر فترة إضافية حتى يتعرف أكثر على طبيعة المتغيرات وتأثيرها على التوازنات الإقليمية ودور القوى في نسبة المشاركة في ترسيم استراتيجية «الشرق الأوسط». وهذا الاحتمال يمكن الحكم عليه في أسلوب التعامل مع المراكز الإقليمية وموقعها الخاص في إعادة تأسيس معادلة تهيكل العلاقات بين دول المنطقة من جانب وبين دول المنطقة والولايات المتحدة من جانب آخر.
نظرة سريعة إلى ما كان عليه وضع «الشرق الأوسط» في 20 يناير وما أصبح عليه الوضع في 20 يونيو/ حزيران الجاري تكشف عن متغيرات لا بأس بها في خريطة التوازن الإقليمية.
حين دخل أوباما البيت الأبيض كان العالم يعيش لحظة تداعيات انهيار مالي عالمي أدى إلى تقويض عشرات المصارف ومئات الشركات وآلاف المؤسسات وشرد الملايين من وظائفهم. الآن لا يزال العالم يتخبط في بحر من الإفلاسات ولكنه أخذ يستقر على قعر يمكن أن يوقف التدهور ليبدأ النهوض من الكارثة المالية.
الجانب الاقتصادي لا يمكن عزله عن الجانب السياسي الذي اعتمده «تيار المحافظين الجدد» خلال فترة سيطرته على إدارة واشنطن. فالكارثة المالية هي نتاج كوارث سياسية هددت سمعة الولايات المتحدة وموقعها الدولي ودورها في صنع القرار. فالرئيس السابق تحول في السنتين الأخيرتين من عهده إلى أضحوكة وبات مدار سخرية حتى من قادة دول الاتحاد الأوروبي بسبب تعثره المستمر وفشله الدائم في إطار «الشرق الأوسط الكبير». الآن بدأت صورة أميركا تتعدل نسبيا بعد قيام أوباما بإجراء عمليات تجميل للسمعة وتحسين صورتها من خلال وعد العالم وتحديدا العالم الإسلامي (والعربي) بأنه يريد التغيير وسيقلع عن مشروع التقويض الطائفي - المذهبي الذي اعتمدته الإدارة السابقة بذريعة تغيير خريطة «الشرق الأوسط» السكانية والسياسية.
وعود أوباما لم تتحقق ويرجح أنها لن تتحقق لمجموعة اعتبارات تبدأ أساسا من القضية المركزية فلسطين. المفاجأة غير السارة التي واجهت الرئيس الجديد في مطلع عهده جاءت من «إسرائيل». أوباما دخل البيت الأبيض في فترة كانت تل أبيب أنهت حرب التقويض في غزة ووقعت اتفاقية أمنية مع إدارة بوش أثارت غضب مصر التي اعتبرتها خطوة سلبية تهدد أمنها القومي وتزعزع استقرارها الوطني وتعطي فرصة لقوى التطرف بتعطيل العملية السلمية.
إلى تقويض قطاع غزة وتهديد أمن مصر واجه أوباما أسوأ المتغيرات في الصورة السياسية لحليف أميركا الاستراتيجي. فالرئيس الجديد وجد إدارته في مواجهة أخطر إيديولوجية متطرفة أخذت تقود حكومة تل أبيب. وشكل هذا الأمر صدمة سياسية في اعتبار أن رئيس الحكومة الإسرائيلي لا يحترم القرارات الدولية ولا يعترف باتفاقات ولا يكترث للضغوط التي يتعرض إليها من الدول الأوروبية أو العربية أو الإقليمية. مشكلة أوباما بدأت في فلسطين وعادت إليها وهي تشكل نقطة مركزية في برنامجه فإذا فشل فيها تعرض مشروعه للتفكك وإذا نجح يكون حقق اختراقا استراتيجيا عجزت الولايات المتحدة عن إنجازه خلال العقود الستة الماضية.
كيف سيتعامل اوباما مع هذه المتغيرات التي حصلت على امتداد مسرح «الشرق الأوسط الكبير» منذ دخوله البيت الأبيض؟ حلقات السلسلة لاشك مترابطة من باكستان وأفغانستان إلى إيران والعراق وصولا إلى فلسطين ولبنان. والترابط لا يعني تشابه الحلقات وتطابقها في الشروط والخصوصيات. الحلقة الباكستانية - الأفغانية انتقلت من القلق والخوف والتوتر إلى خطوة ميدانية أفضل بعد أن نجحت إسلام آباد جزئيا في تطويق «بؤرة التطرف» في وادي سوات. الحلقة الإيرانية - العراقية دخلت الآن حالا من الجمود للتعرف على خلفيات المشهد الانتخابي في إيران والمحطة النهائية التي سيتوقف عندها ومدى تأثيره الإقليمي في الإطارين العراقي والخليجي. كذلك الحلقة الفلسطينية - الإسرائيلية دخلت في طور الجمود النسبي قياسا على إيقاع حركة الأسابيع الأولى. فالحكومة التي يقودها أقصى التطرف أعلنت رفضها تجميد توسيع المستوطنات عموديا وأفقيا وهددت بالانقلاب على كل مفاوضات التسوية ومبادرة السلام العربية.
الجمود الذي طرأ على المشهدين الإيراني والفلسطيني يرجح ألا يكون دائما ولكنه ينتظر فترة زمنية إضافية للتعرف على تفصيلات غير مرئية في صورة المتغيرات ومدى تأثيرها على التوازنات الإقليمية. ولكن رؤية الحراك السياسي في جوانبه الأخرى وتحديدا لبنان وسورية يعطي فكرة موجزة عن صورة المتغيرات المحتمل أن تتمظهر قريبا في إطارات تساهم في رسم تحالفات إقليمية جديدة.
لبنان مثلا الذي حقق مفاجأة انتخابية أكبر من المتوقع دخل فترة هدوء ونقاهة ويرجح أن يعيش مرحلة تسوية مؤقتة بانتظار تبلور المشهد الإقليمي من طهران إلى غزة.
سورية تعيش فترة انتقالية غير واضحة المعالم بسبب تسارع المتغيرات حولها من لبنان إلى إيران وصولا إلى عودة نمو الموقع الإقليمي لدور مصر والسعودية. والحيرة السورية يمكن رصدها من تصريحات القيادة السياسية التي تتجه مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ومرة إلى الأمام ومرة إلى الوراء.
رقصة «التانغو» التي تجيد القيادة الدمشقية ممارستها تقليديا تبدو الآن غير موفقة أو أنها على الأقل تعاني من صعوبة تحريك الخطوات على صوت موسيقى متسارعة على إيقاع نغمات يمين يمين ويسار يسار وأمام أمام ووراء وراء.
كل هذه المشاهد من باكستان إلى لبنان وفلسطين قابلة للتعديل والتغيير في اعتبار أن المتحولات لم تستقر بعد وتحتاج إلى فترة زمنية إضافية للتعرف على خلفياتها وتفصيلاتها وخصوصا في الصورتين المهمتين إقليميا: إيران وفلسطين.
أمور كثيرة حصلت في «الشرق الأوسط الكبير» منذ تسلم أوباما مقاليد الرئاسة. وهذه المتغيرات التي كشفت عن قابلية المنطقة للتحرك والتعديل والتبديل والتحول أعطت إشارات سريعة عن نمو معادلة غير واضحة المعالم قد ترسم خريطة طريق في أسلوب التعامل الأميركي مع دول المنطقة. أوباما قال إنه يراقب المشهد الإيراني ولا يريد التدخل. أوباما ينتظر كما يبدو... ولكن المنطقة تعيش في حالات قلق وتوتر ولا تستطيع الانتظار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2481 - الإثنين 22 يونيو 2009م الموافق 28 جمادى الآخرة 1430هـ