هناك لغة واحدة يستخدمها جميع البشر لا تحتاج إلى حروف ولا إلى كلمات، بل تعتمد على التعبير الطبيعي عن الأحاسيس والمشاعر باستخدام الحركات والإيماءات والتنهدات، ونبرة الصوت وقسمات الوجه، وحركات الرأس واليدين، وأحياناً طريقة اللباس وأسلوب الجلوس والمشي، بل والصمت أيضاً، إضافةً إلى الكلام بلغة العيون. ولعل الأخيرة (أي العيون) هي العضو الذي احتل مكانةً في التراث العربي، نثره وشعره، لم يصل إليها أي جزء آخر من الجسد البشري.
ولغة الجسد من الأبجديات الأولى للحياة الإنسانية، وهي ذات تأثير يكولوجي كبير على الآخرين، كما أنها تمنح الأفراد الشعور بالقوة والنشاط والود، وتفتح للعقل الباطن فضاءً رحباً من الدلالات؛ لذلك كان السياسيون دائماً أول من يهرول إلى دراسة هذا «العلم» القديم الجديد، وذلك لمعرفتهم بمدى أهمية توظيف لغة الجسد في خطبهم لتوصيل رسائل غير معلنة، لا تصل بالكلام العادي للجمهور؛ لأن تأثيرها باعتقادهم، أقوى أضعافاً عديدةً من تأثير الكلمات!
وترتبط لغة الجسد في عالم السياسة بالاعتبارات الثقافية والبيئية؛ وعلى سبيل المثال فإن فلاديمير بوتن يتمتع بلغة وحركات لا إرادية تعكس ثقته بنفسه وبتربيته وثقافته الروسية، فهو يمارس رياضة الجودو (حائز على الحزام الأسود)، على العكس من الرئيس الأميركي السابق (بوش) الذي ظلّ يبعث برسائل تعكس ثقافة «السوبرمان الأميركي»، المتجسدة في أفلام هوليوود، بإظهار البطولات الخارقة عبر الهدم والتدمير والقفز فوق العمارات الشاهقة.
ويمكننا ذكر الصورة باعتبارها إحدى أدوات إخافة الآخر والتأثير سلباً على معنوياته؛ لذلك أطلق الأميركيون على غزوهم للعراق مسمى «الفجر الأحمر»، وهو اسم لفيلم صدر عن هوليوود العام 1984، ويستطيع القارئ استنتاج كيف يتم قلب الصورة بين تمجيد المقاومة واحتلال المستعمر الغازي! بينما يظهر السوبرمان الروسي شخصاً ضعيف البنية نحيل الجسد، ثاقب العقل راجح الرأي، بحسب الثقافة الروسية.
ومن آيات الفطنة وعلامات النباهة عند أهل السياسة أيضاً، أن يتمتع المرء بفهم عميق لحركات الجسد اللاواعية والتلقائية. يقول الإمام علي (ع): «ما أخفى ابن آدم شيئاً إلا ظهر على قسمات وجهه وفلتات لسانه»، وما لا يستطيع اللسان قوله تفضحه حركة جسده. وفي عالم السياسة هناك الإيماءات والإيحاءات والرموز حيث يظهر السياسي عكس ما يضمر، ويتشدق بمبادئ يدعي أنه يؤمن بها.
وهناك تعريف طريف يختصر الحبكة، هو أن الدبلوماسية هي الفن الذي يجعلك تقول لكلب شرس: يالك من كلبٍ لطيفٍ حتى تجد فرصة لالتقاط قطعة من الحجر! بينما خطيب الأنبياء شعيب (ع) يقول: «وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» (هود، 88). لذا، ليس من المستغرب أن يكون لكل زعيم سياسي مستشاره الشخصي المتخصّص في لغة الجسد!
اجتماعياً، لغة الجسد تغري بالتطلع إلى استلهام الزعامة والوجاهة. والوجاهة مشتقة لغة من الوجه، فالوجيه يمثل قوام مجتمعه لأنه وجه هذا المجتمع أمام الآخرين، والوجيه هو اللسان المعبّر عن آلام وطموحات مجتمعه، والوجه باعتباره جزءًا من الجسد معبّر بالضرورة عمّا في النفس. والوجاهة قد تكون وهميةً، وهي تلك الناشئة عن الثروة أو النسب أو التملق لأصحاب النفوذ والسلطة، وقد تكون وجاهةً حقيقيةً ناشئةً عن علم ومعرفة وانحياز للضعفاء والمظلومين وخدمة العباد. وفي هذا السياق يأتي الدعاء «اللهم اجعلني عندك وجيهاً».
أما في عالم الجمال والفضائيات والمذيعات، فإن الفيض الفكري يغري بالتطلع إلى الأعلى؛ لكن المجال الإعلامي العربي يستدعي مقولة الروائية التشيلية إيزابيل أللندي في روايتها «إيفالونا»: «إذا كنت جميلةً فإن جميع مشاكلك ستحل»! ومعطيات لغة الجسد من حولنا تشير إلى أنها تتجه للأسفل، نحو عبودية الجسد المزركش بالعقول الفارغة وعمليات التجميل، منتحلاً أهم خصائص الإنسان في سمو روحه وتعاليها؛ مع أنه يشدّنا وبإصرار نحو الأسفل، وكأن كلمات غسان كنفاني «المرأة ملحمة انتصار تبدأ من عنقها فما فوق»، لم تكن سوى سفر نحو محراب الحب والجمال الرفيع.
في الشرق أيضاً رمزية الجسد تمهّد لرمزية السياسة (وكأن بينهما ارتباط عضوي) فيستخدم مصطلح مثل جسد الأمة أو قلبها النابض أو عينها الساهرة وصمام الأمان، وتستعير السياسة من الجسد وأعضائه ما يضفي المعنى المقصود، فلو أخذنا الرقص (العرضة مثلاً) أنموذجاً للتدليل على تقاطع الجسدي بالسياسي، فإننا نجد في العرضة الجسد المتحرك والمتمايل بالسيوف والذي تغري أجواؤه بإطلاق الأعيرة النارية، فتجمع المناسبة وظيفتين متناقضتين، أولاً: هي استفتاء عام من خلال التعبير عن البهجة والمشاركة الشعبية. ثانياً: استعراض عسكري يرمز إلى استقرار الوضع وتشفير يراهن على مركزية القرار. هنا لا تمارس العرضة باعتبارها طقساً اجتماعياً فلكلورياً كما هو الحال في رقصات الشعوب الأخرى التي (بحسب ثقافتها) تدمج سمو ورقي العواطف بحركة الجسد كما في رقصة «التانغو» و «البالية» و «الفالس»، لكنها في الشرق تعزز التسلية والهيمنة برمزيتها السياسية.
ويتزاوج الحراك الاجتماعي الجسدي في العرضة مع شهوة البطون عبر ولائم الرز ولحم الماعز؛ فيتكامل الإشباع الجسدي لتمتد في الختام الأيدي إلى الوجوه فتمسح الشوارب واللحى بما تبقى على أناملها من دهن الوليمة، داعيةً المولى ألا يغيّر الحال، فتزأر لغة الجسد لتكون أصدق إنباءً من الكلام.
في حضارتنا كان الجمال ولغة الجسد دائماً يتوسطان حياة الناس، ما يدل على أنه لم تكن هناك حدودٌ فاصلةٌ بين العبادات والمعاملات، وكلما انفصل هذا الانسجام أصبحت الممارسات أكثر خشونةً واتسعت هيمنة السياسي البشع لتتقلص مساحة الجمال الإنساني باعتباره مطلباً من متطلبات العبادة والحياة. ومن الأمثلة التي تجسّد انسجام الروح مع الجسد ذلك المشهد الرائع عندما نظر الإمام علي (ع) إلى رجل يصلي وهو يعبث بلحيته فقال له: «لو خشع قلبك لخضعت جوارحك». نعم! الخشوع يسبق الخضوع. ويمكننا القول: إذا حصل الحب حصل الولاء فتحدث الجسد.
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3556 - الجمعة 01 يونيو 2012م الموافق 11 رجب 1433هـ