عاد التوتر مجدداً إلى لبنان، وبشكل خاص في منطقته الشمالية، ومن جديد أصبح الغرماء يوجهون الاتهامات لبعضهم بعضاً، ويحمّلون هذا الطرف أو ذاك مسئولية انهيار الأوضاع الأمنية في البلاد، وبخلاف المرات السابقة، انهمك الجيش اللبناني، منذ الوهلة الأولى بالأحداث.
وتشير قراءة ما يجري من أحداث محلية وإقليمية، إلى أن الأيام المقبلة ربما تشهد تصعيداً خطراً للصراع في هذا البلد الذي عانى كثيراً من تداعيات الأحداث الإقليمية التي تجري قريباً منه. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تتبارى بعض الدول في توجيه التحذير مطالبة رعاياها بمغادرة الأراضي اللبنانية فوراً، ونصيحة من يضطرون إلى البقاء بأخذ الحيطة والحذر، وترقب ما قد يكون أسوأ.
واقع الحال، أن ما حدث في لبنان لم يكن مفاجئاً لأي مراقب للأحداث التي تجري على الساحة السورية، منذ ما يربو على الأربعة عشر شهراً. وكثير من المحللين توقعوا أن يكون الانفجار في لبنان مبكراً، وقد وجد البعض في تأخر ذلك، تطوراً في وعي النخب اللبنانية، ومحاولة منها للنأي بنفسها عما يجري من حولها، تغليباً لمصلحة لبنان، وضمان أمنه واستقراره. ومع كل محاولات النأي عن الانخراط بالصراع الإقليمي الدائر في المنطقة، وبشكل خاص في سورية، فإن كل المؤشرات تؤكد حتميته، وتشي باستحالة تأجيله.
فلبنان لم يملك، في التاريخ الحديث، منذ أيام السلطنة العثمانية، حتى يومنا هذا زمام مقاديره، وكانت خريطته الطائفية، ومكونات القسمة فيها، تمثل ظلا لحضور إقليمي ودولي، يطغى بحضوره أحياناً، ويختفي تحت يافطات ومسميات مختلفة في أحيان أخرى.
والنتيجة أن ما برز بعد الاستقلال في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن غير نظام صمغي، استمد حضوره، من رعاية القوى الدولية التي تقف خلفه، ومن التوافقات الطائفية، بين النخب السياسية. وقد جرى تعريف ذلك مجازاً بالميثاق الوطني. وللأسف لم يكن للبنانيين علاقة مباشرة بصياغة هذه الهيكلية. فقد مثلت تسوية، كما أشرنا، بين جملة من التجاذبات الدولية والإقليمية والمحلية التي ارتبطت، في الأساس، بالتنافس الدولي على تركة الرجل المريض بالأستانة. وعبرت الصياغة الفرنسية للميثاق المذكور، بصدق، عن طبيعة التوافقات والتحالفات والصراعات بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وأخذت في الاعتبار حقائق القوة ومصالح تلك القوى.
وللأسف، فإن صناعة القرار في لبنان، منذ الاستقلال، استمرت تُصْنَع خارج لبنان، بما في ذلك الحربان الأهليتان، في نهاية الخمسينيات ومنتصف السبعينيات من القرن الماضي. فالأولى في أحد أوجهها هي واحدة من تعابير الحرب الباردة بين القوى العظمى، وفي وجهها الآخر، جسدت الصراع المحتدم آنذاك، بين التيارات القومية والتيارات المحافظة. أما الأخرى، فكانت بسبب الحضور الفلسطيني في لبنان، بعد مغادرة الأردن، وخشية بعض الأحزاب المسيحية، من حدوث خلل ديموغرافي، لمصلحة الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
وقد فرضت القسمة بين الطوائف حقوقاً لكل نخبة وكل طائفة، عبّرت عن نفسها باتساع هامش الحرية، بشكل قلّ له نظيره. والنتيجة أن النظام السياسي في لبنان، بخلاف معظم الأنظمة العربية، أصبح محكوماً بمقولة كثير من الحرية، وقليل من مؤسسات الدولة المدنية. وكانت الحرية، في حقيقتها هي الوجه الآخر للصراعات الإقليمية والدولية، حيث الكل من القوى المتنفذة، بكل تشعباتها الجغرافية والفكرية والسياسية، يحظى بفرص معقولة للتعبير عن مناهجه وبرامجه.
هذه المقدمة تقودنا إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: مؤداه أن لبنان بين خيارين رئيسيين، إما نيل استقلاله السياسي الكامل، المعبر عنه بالقدرة الذاتية على صناعة القرار المستقل، من دون تدخل قوى الجوار، والقوى الإقليمية والدولية، وذلك أمل معلق، لا تلوح عناصر تحققه بالأفق، وإمّا البقاء في حالة التأرجح بين فسحة قصيرة من الاستقرار، لا يلبث بعدها المتصارعون من العودة إلى حلبة التنافس.
الأمر الثاني: ان استقرار لبنان رهن باستقرار وتوافقات أخرى بين القوى التي تهيمن على صناعة القرار فيه، وتتحكم بأقداره. فحينما تتوافق دول الجوار، والقوى الإقليمية الفاعلة على أجندة سياسية محددة، وتدعمها في ذلك القوى الدولية، ينعم لبنان بالاستقرار، وتعود البهجة إلى أبنائه، وتنشط فعالياته السياحية والاقتصادية مجدداً، أما حين تنشب الصراعات بين هذه القوى، فإن لبنان سيكون أمامه صيف ساخن لا يعلم أحد منتهاه، ويكون مصير اللبنانيين معلقاً على أجندة أو اتفاق آخر بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة، وخلالها تسيل الدماء، ويعم الخراب والدمار، وتتوقف الأنشطة الاقتصادية والسياحية. وقد حدث في السابق، أن استمرّ الصيف الساخن لما يقرب من عقد من الزمن.
في المشهد الآن، على الحدود الشرقية للبنان، تقف الأزمة السورية، لتشكل معلماً رئيسياً من معالم أزمة لبنان، فالبلدان يرتبطان بجغرافيا واحدة، وجمعهما تاريخ طويل من الوحدة والتضاد، وقد أدت تعقيدات الواقع السياسي في لبنان والمنطقة، والمواقف السياسية المختلفة من الصراع العربي - الصهيوني، إلى دخول القوات السورية إلى لبنان، وبقائها به لما يزيد على الثلاثة عقود. ومن الطبيعي أن يعكس ذلك نفسه في تعدد الولاءات السياسية، وانقسامها على ما يجري الآن في سورية. يضاف إلى ذلك، حالة الاصطفاف السياسي التي قسمت اللبنانيين أفقياً، منذ منتصف السبعينيات، بين موالاة ومعارضة، لا تلبث الصورة أن تنقلب، فيتبادل السياسيون الأدوار تبعاً لنتائج صناديق الاقتراع المحكومة هي الأخرى بقوة تدخل الأطراف الإقليمية فيها، وأريحيتهم مع هذا الفريق أو ذاك.
وليس بالإمكان تجاهل حقيقة أخرى في هذا السياق، هي أن طرابلس، مركز الاضطراب الآن، ليست كبيروت. وقد انطلقت بؤرة التفجر منها، فهي قياساً إلى ما هو متعارف عليه في بلدان العالم الثالث، تأتي، رغم أهيمتها، ضمن قائمة مدن الأطراف، حيث تنعم العاصمة بالمكاسب والمغانم، وتصبح مركز جذب واستقطاب لرؤوس الأموال، بينما تظل الأطراف غارقة في بؤسها ومعاناتها. مع حالة الاحتقان السياسي الذي امتد عميقاً بالمجتمع الطرابلسي لسنوات طويلة، والملاحقات التي شهدتها المعارضة خلال العقود التي مضت، وانتشار حركة التسليح، بين جميع الأحزاب والتيارات، وانشطار المجتمع على ما يجري في سورية منذ تفجرت الأزمة، التي ستكون تأثيراتها على لبنان موضوعاً لحديثنا المقبل بإذن الله.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3555 - الخميس 31 مايو 2012م الموافق 10 رجب 1433هـ
علي جاسب
لايمكن للبنان ان يستقر مالم يقتنع السنّة بنصيبهم في الحكم , والا ستستمر الازمات والحروب لانهم يريدون الجمل بما حمل مثلهم كمثل السنّة في العراق الذي صار شعارهم فيه . اما ان نحكم البلد واما ان ندمره . ولو نظرنا الى خارطة العالم فان الارهابيين نسبتهم 99% منهم حيث عمّ شرهم العالم كله , ولو انهم امتلكوا عشر سلاح حزب الله لما بقي مسيحي او شيعي او درزي واحد في لبنان فهل من المعقول ان تعتدي العلوية وهم الاقلية على السنة وهم الاكثرية ؟
العراق . البصرة