نقرأ بداية هذا الاعتراف: «في يوم الجمعة الموافق 11 مارس/ آذار 2011، اتصلت بي (...) مسئولة بالرعاية الأولية وسألتني إن كان لدي استعداداً للعمل في مركز (...) الصحي، بأمر من أحد المسئولين بالوزارة لعلاج جرحى. عندها ذهبت للعمل في المركز مع نحو 35 طبيباً وطبيبة متطوعين منذ الساعة الثانية بعد الظهر، وقد استقبلنا أكثر من 700 حالة غالبيتها كانت استنشاق غاز، وبعض الحالات كانت حرجة، من الاختناق الشديد، عدم القدرة على التحدث، شبه فقدان للوعي، ألم في الصدر، ظهور الزبد من الفم، التقيؤ وتشنجات في العضلات، وشاهدت حالة حول في العينين.

وقد لاحظت استجابة المرضى لدواء (Atropine) الذي أعطي للمرضي لعلاج حالات التشنجات العضلية، وكانت غالبية المرضى هم من فئة الشباب. بالإضافة لذلك تواجدت حالات كسور ورضوض وجروح عميقة نتيجة لطعن بأدوات حادة. وفي يوم السبت 21 مارس 2011 شكرتنا المسئولة في الوزارة على الجهد والعمل في هذه الظروف الطارئة للبلد، وأثنت على من تبرع للعمل في المركز الصحي. في يوم 13 أبريل/ نيسان تم اعتقالي في منتصف الليل ولمدة 22 يوماً. وفي يوم 20 يونيو/ حزيران 2011 تم عرض جزء مقتطع من فيديو لمريض على شاشة التلفاز مع الادعاء من المذيع وزملاء مهنة أننا نظهر فيه ونحن نعطي دواء (Atropine) لإصابة المرضى بالتشنجات والهلوسة، ومن ثم الادعاء بأنه بسبب الغاز، مع أن المصادر الطبية تبين أنه لا يسبب تشنجات...».

هذا جزء يسير جداً من مئات الصفحات في ملف باللغتين العربية والإنجليزية لما حدث في فبراير/ شباط ومارس/آذار من العام الماضي، هو بحق من أغرب ما قرأت من ملفات في التاريخ الحديث والمعاصر طوال ثلاثين عاماً. ولذا يحق لنا أن نطلق عليه «ملف القرن»، أو كما أطلق عليه أصحاب الشأن أنفسهم «ملحمة ضمير».

ملف العشرين، نعم، إنه ملف الأطباء المدوّن به أسماؤهم وأمامها أرقامهم الشخصية، ويحوي ما حدث لهم طوال الأشهر السابقة من أزمتنا المؤجلة. والجزء المقروء أعلاه هو شذرات مما حدث لملائكة الرحمة في هذا الوطن في مطلع تلك الأشهر. ويتضح بجلاء أنه ما كان يتوقع هؤلاء النخبة المبدعة والصادقة في تعاملها مع آهات الوطن والناس أنه بين الإسراع لأداء الواجب المهني والإنساني وشكر المسئولين لهم، سرعان ما تأتي الجزاءات غير المتوقعة بتاتاً. وخير دليل مادي مقروء وموثق للجميع في هذا الملف الحقوقي المميز، وكمثل بسيط للبقية، هو شهادتان لطبيبتين (ندي ضيف، رجاء كاظم)، ولا أظن هناك بشر ذو إحساس إنساني، يقرأ تلكما الشهادتين ولا ينفطر قلبه وتقشعر أحاسيسه مما حدث لهما.

في ملف الضمير نقرأ الكذب المباح على أزهار المجتمع الطبي البحريني حين يشهد طبيب أجنبي على أطباء الوطن، وهو لم يحضر اجتماعاً مزعوماً معهم كما يذكرون، ومع ذلك قال: «أنا سمعت من الأطباء الذين حضروا الاجتماع أن...». وشاهدٌ آخر يتهم طبيب أسنان بالطائفية، لأنه لم يقبل علاج جرحى مصابين في الرأس من طائفة معينة، على رغم أنه من المعروف طبياً أن طبيب الأسنان لا علاقة له بعلاج جروح الرأس! وإلا لكان المحاسب في البنك يجب أن يعرف كيفية تصميم المباني وإنشائها.

ملف القرن هذا يحوي تهماً بأعمال إرهابية لخيرة الأطباء الذين تفخر بهم بلادنا وكان جميع من عُولج على يديهم يثني عليهم ويرسل باقات الزهور والشكر لهم من كل الطوائف والأديان والأعراق في مملكة البحرين. هؤلاء هم أنفسهم من اتُهموا بالسيطرة على مبنى عام بالقوة والترويج بوسائل غير مشروعة قولاً وكتابة لأعمال بقصد إلقاء الرعب بين الناس وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة، واستيلاء على أدوية ومعدات طبية مملوكة لوزارة الصحة، وتحريض على الكراهية والازدراء بطائفة من الناس وعدم الانقياد للقوانين. وعدم إسعاف وإغاثة المرضى والمصابين.

إن ملف الأطباء، بقدر ما تمعنت فيه، بقدر ما توقفت طويلاً أمامه قبل الحديث عنه، وخصوصاً تلك الصفحات الخمسين التي ضمت ما اتُهم به الأطباء الكرام مع ذكر العينات التي كانت تحت أيديهم بغرض العمل الإرهابي من: مفك براغي، قطعتين خشبيتين، سلاسل معدنية و «اسبانة» معدنية، منجل وقناني بلاستيكية وزجاجية، عكازين أحدهما ألمنيوم والآخر خشبي أسود مكسور من المنتصف! وساطور ذو نصل معدني... و... و... مما حوته قائمة تلك الأوراق البيضاء ذات الحبر الأسود القاني.

كما يضم الملف كل حالات الفصل والتوقيف عن العمل وخصم الرواتب وتغيير مسميات الوظائف والنقل بين أنواع العمل في مواقع متعددة بعد إرجاع المفصولين و... و...

وإلى متى سيظل هذا الملف مفتوحاً من دون إغلاق ونحن نسعى لتحسين صورة البحرين في المحافل الدولية الحقوقية؟ فهذا لعمري هو خير دليل نقدمه للعالم المتحضر الذي حضر وشاهد وسمع في جنيف مؤخراً كل شيء. ألا تريدون أن تخرس كل الألسن التي تدعي أننا نحاكم أطباءنا وأنها، كما يدعون، محاكمة القرن الواحد والعشرين؟ ألا نسعى جميعاً لتبييض ملف البحرين الحقوقي أمام أعين العالم الفضائي اليوم وهم يرون ما نفعل كل لحظة. ألا نسعى جميعاً لتحقيق حُلم الدولة المدنية العصرية الديمقراطية التي سيصفق لها المجتمع الدولي قريباً إن هي أغلقت ملف الأطباء (بالضبة والمفتاح) إلى الأبد، وتخلصت من وجع الرأس ليعود الجميع إلى أعمالهم في مملكة البحرين ويرتقي طب العظام والأسنان والأنف والأذن والحنجرة والجراحة والتخدير وطب الأسرة والرعاية الأولية، وليعود على رأس هؤلاء عميد الجراحين في طب الأعصاب والدماغ، وحتى لا تبقي ملحمة الضمير مستمرة في فصولها تؤرق وتقلق الداخل والخارج وخصوصاً أن موعد صبح الشهر التاسع من هذا العام ليس ببعيد. اللهم اجعله خيراً، لا يكون حُلمي خلص؟!