إن دراسة اللغات لا تعني على الإطلاق التجمُّد عند النصوص أو الترجمة والنقل من اللغة وإليها، بقدر ما هي محاولة للتعرف على ثقافات الشعوب وكيف تفكِّر.
وثمة وثيقة مهمة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بعنوان «الاستراتيجية المتوسطة الأجل للفترة (2008ـ2013) بشأن اللغات والتعدد اللغوي» حيث نقرأ في الصفحة رقم 29، بأن «اللغات عنصر جوهري من عناصر الثقافة»، وهي ليست مجرد وسيلة للاتصال. فالبشر يستخدمون اللغة لصياغة مشاعرهم ونواياهم وقيمهم ومفاهيمهم وممارساتهم وفهمها والتعبير عنها. وبذلك فإن اللغة تمثل عاملاً حاسماً في تكوين هوية الأفراد والجماعات، والتنوع اللغوي ضمانة كبرى للتنوع الثقافي.
ليس ذلك فحسب، وإنما يشكِّل التعدد اللغوي الإطار الجامع للممارسات الاجتماعية لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وتعزيز قيم السلام العالمي والعيش المشترك والاحترام المتبادل للتمتع بحقوق الإنسان الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية.
وعلى رغم أهمية الدور الذي يلعبه التعدد اللغوي، إلا أنه سيظل واحداً من أبرز التحديات التي ستواجهها اليونسكو في رسم استراتيجياتها المستقبلية المتكاملة في ظل استمرار الصراع العربي الإسرائيلي.
مؤخراً، أعلنت وزارة التربية والتعليم التابعة لحكومة حركة حماس، أنها قررت بدء تدريس اللغة العبرية في عدد من مدارس قطاع غزة ـ بعد أن كان محصوراً في الجامعات فقط ـ وذلك اعتباراً من العام الدراسي المقبل 2012ـ2013م.
ذكرت «حماس» أن تدريس اللغة العبرية سيتم كمادة اختيارية لطلبة الصفَّين التاسع والعاشر، كما ورد على لسان زياد ثابت (الوكيل المساعد في وزارة التربية والتعليم في الحكومة الفلسطينية بغزة) لوكالة «فرانس برس».
المسوِّغات التي ساقتها حماس لهذا القرار «بأنهم مازالوا تحت وطأة الاحتلال، والاحتلال إنما يتحدث اللغة العبرية وغالبية البضائع الموجودة في السوق مكتوب عليها باللغة العبرية، لذا فإن معرفة هذه اللغة أمر مفيد، وأن هناك مجموعة من المعلِّمين والمشرفين للغة العبرية لديهم خطة ووضعوا الخطوط العريضة، والآن هم في طور الإعداد لمحتوى هذا المنهاج ليتناسب مع عمر الطلبة».
حتى لحظة كتابة هذا المقال لم تعلِّق الجهات الرسمية في إسرائيل على القرار، في الوقت الذي رفضت وزارة التعليم الفلسطينية بالضفة الغربية خطة «حماس» التربوية قائلة إنه «غير وارد حالياً ولم يتم التشاور به باعتبار أن المنهاج الفلسطيني موحد في غزة والضفة»، وهو ما قد يعكس واقع العلاقة بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، فكيف بحماس أن تتخذ قراراً مهماً واستراتيجياً كهذا دون التنسيق والتشاور مع السلطة في رام الله، وخصوصاً بعد إلغاء حصة اللغة العبرية في مدارس القطاع العام 1994م، والاتفاق على توحيد المقررات الدراسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ قيام السلطة الفلسطينية.
قرار التدريس لن يكون إلزامياً، إلا أنه بلاشك يمثِّل بالونة اختبار للأطراف السياسية في الوسط الفلسطيني، فهل هذا القرار محاولة غير مباشرة للتطبيع أو على الأقل اعترافاً بلغة الدولة المعادية؟
بعض المعارضين لحكومة «حماس» رأوا أن القرار استفزازي ومتأثر إلى حد كبير بالفكرة الدينية السائدة (اعرف عدوك)، فلابد من دراسة ومعرفة تركيبة مجتمع العدو، كما أن على الطلبة في المدارس أن يتعلموا لغة عدوهم، أو كما رأى البعض الآخر أنه بمثابة المخرج لضبط الإيقاع الأمني؛ لأن إسرائيل تحاول اختراق قطاع غزة عن طريق العملاء بشكل دائم.
المحللون الإسرائيليون اعتبروا القرار محاولة غير مباشرة للاعتراف بالكيان أو الجنوح نحو التطبيع مع إسرائيل؛ لأن الإنسان عدو ما يجهل، وبالتالي فإن هذا القرار محاولة لفهم الآخر وإزالة الحواجز النفسية بين الطرفين من أجل التعايش السلمي، وأن حركة حماس إنما قابلت بقرارها هذه السياسة الإسرائيلية الموازية، أي تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية الإسرائيلية حتى الصف التاسع.
المشتركات كثيرة بين اللغة العبرية واللغة العربية كالجوانب البنائية والصوتية ومستويات التحليل اللغوي؛ وذلك بسبب انتمائهما ـ إن صح التعبير ـ إلى عائلة واحدة، فاللغة العبرية إنما سميت بهذا الاسم نسبة إلى العبرانيين الذين حملوا اللغة من بعد الكنعانيين، وهي لغة سامية، أي من مجموعة اللغات الشمالية الغربية من الفرع الكنعاني، التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الإفريقية الآسيوية، وهي تمثِّل لغة الأدب والحديث والمعاملات الرسمية، أو كما يرى البعض بأن اللغة العبرية الحديثة منبثقة أساساً من اللغة العبرية القديمة التي كانت لغة دينية للمتدينين اليهود في تعاملاتهم الدينية، وهي بالتالي نشأت كمحاولة إحياء للغة العبرية القديمة التي انقرضت في القرن الخامس قبل الميلاد.
هي على كل حال لغة القاطنين في حدود إسرائيل والأراضي الفلسطينية، إذ «يبلغ تعداد سكان دولة إسرائيل نحو 7,881,000 نسمة، أي ازداد عدد سكان إسرائيل اليوم بنحو 9 أضعاف عما كان عليه في فترة إقامة الدولة - عندها بلغ تعدادهم نحو 806 آلاف نسمة» (راجع: لمحة إلى معطيات إحصائية عن إسرائيل 2012 بالموقع الإلكتروني التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية).
مهما تكن الأسباب والمبررات السياسية التي دفعت بحكومة «حماس» إلى تبني هذا القرار، إلا أن «تعلُّم اللغات» من وجهة نظر علمية يكون أكثر فاعلية في مرحلة التعليم الأساسي بدلاً من الصف التاسع والعاشر (أي الثالث الإعدادي والأول الثانوي)، حيث يؤكد علماء النفس أن باستطاعة الطفل الذي عمره خمس سنوات أن يتعلم ثلاث إلى خمس لغات.
خلاصة القول، إن التعليم بلغتين أو بعدة لغات على كل مستويات التعليم تشكل وسيلة للنهوض بالمساواة والتعبير عن تنوع اللغات في شتى المجتمعات بما فيها البيئات المتعلمة ووسائل الإعلام والمجال السيبرني (وهو العالم الافتراضي)، وتشجيع التفاهم بين مختلف الشعوب وضمان احترام الحقوق الأساسية، وهو ما ينسجم مع نهج منظمة اليونسكو في مجال التعليم واللغات في القرن الحادي والعشرين.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3550 - السبت 26 مايو 2012م الموافق 05 رجب 1433هـ