الوهْم دون التخيّل. التخيّل رسمٌ آخر لزمن، لحظة، مكان، فعل، رؤية. التخيّل فعلٌ في الصميم من المستقبل. التخيّل سابقٌ للمستقبل أساساً. لم تنفك المخيّلة عن الاقتراح والتصوّر. اقتراح وتصوّر يهدف إلى القفز بلحظة العالم إلى مستقبل تحتاج فيه إلى سنوات ضوئية كي تتاخم وتبلغ حدوده القصوى؛ عدا بلوغ الأدنى منه. لم تنفك المخيّلة عن تقديم ما بعد الممكن وتجاوزه.
والوهم حكاية أخرى. الوهم علّة العلل، هو رافعة ارتداد إلى ما قبل ودون ما أُنجز. أن تنطلق في وهْمك من ضعف، قصور، مُحاصرة، فشل، شلل، خراب، دمار، تخلّف، وفي نهاية المطاف، أن تُحاصر بالخدَر عبر حبوب ومؤثرات هلوسة؛ وتريد أن تناطح الأفق والسحاب وتوظّف المستقبل خادماً بالمياومة لديك؛ وأحياناً من دون أن تدفع أجره.
أكتبُ هذا المقال، وعالمنا المنقسم والمستهدف في تماسكه النادر، المضطرب، المُصادر، المُسوّر، ولا تخجل وسائل إعلامه الرسمية من إعطاء درس في «كيف تقبض على المستقبل في ثلاثة أيام»، وبوقاحة بالغة وإسفاف، تعطى العالم الذي سبقنا في الإنجاز درساً في «كيف تكون ديمقراطياً بقرار» و «كيف تكون وطنياً بتحريض مانشيت صحافي»!
أكتبُ هذا المقال ولديّ الشجاعة كمواطن عربي ومسلم أولاً، ومواطن كونيّ ثانياً، لا أعاني قلقاً من ارتفاع مؤشرات البورصات أو انخفاضها، ولا أعاني من تذبذب سعر الدولار أو الين؛ أو محافظة اليورو على مستواه لأسابيع خمسة؛ أو خوفاً على مشروعات أملكها ضُربتْ في مقتل بعد الأزمة المالية العالمية العام 2008؛ أو القيامة المالية المصغّرة التي ضربت دول الاتحاد الأوروبي في حلمها حين اتضح الوهم، وأصبح عصر ولحظة إفلاس الدول مثل حقيقة يقين أن الفوضى لا يمكن أن تحتفظ بنفَسها الطويل في السيطرة على العالم.
أكتبُ هذا المقال لإيماني التام بأن ما أوْصل هذا العالم؛ وخصوصاً عالمنا، إلى تراكم كوارثه ومآسيه، هو الامتنان للوهم، واتخاذه دليلاً ومرشداً وسيد الجهات التي إليها ومنها يعبر ويجوز؛ ابتغاء استقرار حياة سكّانه؛ ولكننا نواجه بأكثر من زلزال أينما ولّينا وجوهنا.
ثم إنه لا يتخذ من الوهم دليلاً ومرْشداً إلا الذين أمعنوا في تورّطهم في الغياب والغيبوبة. لا يستقيم حضور مع وهْم؛ كما لا يستقيم إنجاز مع فرْجة وتنْبَلة عن بُعْد أو قرب.
يُراد للوهم أن يكون إرادة صلبة معتمدة لشعوب رضعت وفطمت عن الصحو. يُراد له أن يكون عقار إدمان لا تنفك عن الارتباط به وتناوله. وهم إدمان الصبر والإصغاء إلى وعود بمشروعات إصلاح لن ترى النور؛ لأنها ولدت كفيفة أساساً، وفاقد الشمعة لا يمكن أن يعِد الناس بشمس لكل مواطن في غرفة نومه ليلاً! ووهم آخر يُراد له أن يكون سيداً بالأخذ بنا ونحن في هذا الشلل الماثل والعجز الفاضح إلى ما بعد مصافّ الدول المتحضّرة باجتراحها لكل مذهل من العلوم والاكتشافات؛ فيما هي في اللب من الغياب وأعجز عن معالجة نفاياتها اليومية، وما أكثرها!
ثم إنه علينا أن نملك الشجاعة في الاعتراف بأننا أصل الوهم وامتداده وتوغّله في تفاصيل حياتنا، بأدائنا في حاضر لا علاقة لنا به، ولا شيء يدلّ على أنه حاضر؛ عدا الحديث عن مستقبل تُوضع له خطط وهمية هي الأخرى لن ترى طريقها في تفاصيل حياة الناس؛ ضماناً لعدم الوصول إلى مستقبل حقيقي لتلك الخطط.
وفي الوهم تكتشف أن الحياة يُخططها ويرسمها ويُحدّد ملامحها وملامح حتى أطفالك في المستقبل الذي لن يجيء ونسبة ذكائهم الذي لا ذكاء له في هذا الغباء و «الجحْشَنة» المستفحلة، يُكرّس فيها ذلك الوهم سيادته على كل شيء. إنه سيد العدم الشائع! هو الحاكم بأمره في جغرافية تعاني من احتباس وعُسْر هضْم وتوعّك صحي ونفسي حين يُطلّ موضوع المستقبل برأسه.
ثم إنه لم يصل إلى علمنا ووعينا أن أمّة من الأمم انتصرت بانتظار الوهم كي يرسم طريقها ويحدّد منهاجها في خيار صنع الحياة وقيمتها، ويحدّد معالم وخريطة خياراتها. لا خرائط للوهم ولا معالم، مثلما هو محال أن يكون للعبث خرائط ومعالم. الوهم عبث في هيئة زيغ من نوع آخر!
حتى القوّة في حدّها المتجاوز للأخلاق تعاني وتخلق وهماً ستصحو بعده على هشاشتها وقلّة حيلتها. ستصحو على عجزها البيّن عن تحريك مفاصلها في مهرجان هذا العبث، وهذا التسويق الرديء والمُكْلف الذي يتولاه ويتصدّره الوهم.
كل هذه الندوب والجروح المفتوحة على صِفْر أداء امتدّ لعشرات العقود أعاد الناس والرعايا والخلق إلى ما قبل اكتشاف الإنسان الأول النار وضرورتها والضوء وأهميته والهواء وسر بقائهم على قيد الحياة والاجتماع الإنساني الذي يخرجهم ويحيّدهم عن الاصطفاف مع الوحشة والعزلة.
كل اختطاف لكرامات الناس في عصر من المفترض أنه تجاوز عصور الأنوار بقرون؛ فيما هو ينسج حلكته باحتراف وموهبة استثنائية؛ بسبب تصدّي أنظمة ودول لبيع الوهم؛ هو في اللب من الغياب والوهم. وهم منح الناس حياة أفضل يصحون عليها ليكتشفوا أن اللب من تلك الحياة لا يتجاوز القمع والاستيلاء المُحكم على كل تفاصيلها. وهم إشاعة الدراية ليكتشفوا أنهم في صُلب التغييب والتجهيل، وهْم ريادة لن تجد لها مكاناً في حضرة المتخلّفين عن اللحاق بماراثون مقعدين وعجّز. إنه الوهم، سيّد من لا يريد أن يكون سيّداً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3547 - الأربعاء 23 مايو 2012م الموافق 02 رجب 1433هـ
نور
احسنت اخي موضوع عجبني جدا حقا ان الوهم سيد من لايريد ان يكون سيدا
سلمت أناملك
فعلا
الوهم سيّد من لا يريد أن يكون سيّداً!
احسنت
حقاً هو وهم تغلغل في الاعماق هو السيد لمن لا يريد ان يكون سيد\\r\\nجزاك الله خيرا أبدعت وطرحك حقاً جميل
احسنت
حقاً هو وهم تغلغل في الاعماق هو السيد لمن لا يريد ان يكون سيد
جزاك الله خيرا أبدعت وطرحك