لن أكتب عمود هذا اليوم؛ سأترك التاريخَ بالنصّ يُعطي شواهدَ تتكرَّر في كل عصر. أستضيفه هذا الأسبوع، وهو في ضيافتي كل مساء. لا أنام قبل أن أُعرّج على ابن الأثير، وابن كثير، وعليّ بن الحسين المسعودي، وجلال الدِّين السيوطي، واليعقوبي وغيرهم، ممّن رصَدوا شفاهة حركة وممارسات أسلافنا؛ إمّا بالحضور أو المعاصرة.
شواهد هي بيننا اليوم، وتنتظرنا غداً؛ ليس بالضرورة نحن؛ ربما تنتظر أبناءنا وأحفادنا.
أترك التاريخ يسرد تكرار الأخطاء والمنعطفات والمنزلقات والكوارث. يسرد عدم تعلّم الدرس؛ ويسرد الممارسات ذاتها.
لستُ مهووساً بالتاريخ باعتباره قصصاً وشواهدَ وأحداثاً فيها من الأبيض كما الأسود؛ وإنْ غلبَ الأخير في تاريخنا خصوصاً.
أعود إلى التاريخ؛ وخصوصاً في الأزمات والأوقات المحتقنة والمضطربة والعلاقات المتوترة التي تُهدّد سِلْم الحياة. أعود إليه في الشرّ المستطير الذي يُحاصرنا من أكثر من جهة.
التاريخ في مُتُونه كمٌّ ليس يسيراً من ذلك الشرّ. أعود إليه لأكتشف أن الفارق في الأزمنة وتحولاتها وتبدّلاتها وقفزاتها ليس بالضرورة أن يمنح الإنسان منجاة وحصانة من ارتكاب الأخطاء والفظاعات. الإنسان هو الإنسان، والزمن هو الزمن؛ على رغم التحوّلات التي تنشأ وتطرأ على الاثنين.
ألجأ إلى التاريخ في تلك اللحظات الفارقة لأكتشف أن المستقبل عندنا لن يكون موعوداً أبداً بالعافية؛ طالما استمر هذا التراكم في الأخطاء والفظاعات، ووُضِع الإنسان في آخر ركْب القيمة والاهتمام. ألجأ إليه لتتأكّد قناعة لديّ ترسّختْ بعد سنوات من الإطلالة عليه، وأنا الذي من المفترض أن يكون انتمائي لعصر تفصلني عن ذلك التاريخ عشرات القرون، أن الرفاهية في الأوقات والقفزات في المعارف ليس بالضرورة أن تمنح الإنسان وعياً وقدرة على حبْس؛ أو لجْم أخطائه وفظاعاته؛ مادامت الروح والنفس والضمير في منأى عن الرفاهية الحقّة، وفي حبْس وحجْر عملاق يحول دون تدخلها لمصلحة توازن ورشْد العالم وبشره.
أعود إلى التاريخ لأكتشف تخلّف الحاضر وانسداد أفق المستقبل؛ لأنّ عوامل الانهيار والخزي التي طالت ذلك الزمن ليست على مبْعدة من اللحظة الراهنة، وتمتدّ لتصيب وهْم الوصول إلى المستقبل في مقتل؛ وفي أقل تقدير تصيبه بالعجز.
أذهب إلى التاريخ لأتجاوز حُمْقاً رجاله وصانعوه فيه ضالعون، ولأتجاوز - ولو مجازاً - طغياناً طال كل شيء. وأعني كل شيء.
أذهب إليه لأتعلّم الفارق بين الحديث عن البحر؛ والاكتفاء بالوقوف أمام الساحل؛ وبين مخْر عبابه في العمق من اللجّة، والعمق من مواجهة المصير، ومواجهة الأخطاء والضعف والانحياز بحق ومن دون حق، والتصفيق بأعصاب باردة ومن دون دم للكارثة!
ثم إنه لا معنى لقراءة التاريخ والعبور من خلاله إذا لم تتمكّن الأمم وحتى الأفراد من تجاوز علاّته ومنغّصاته وأسباب انهيار الذين تسيّدوا لحظاته وأوقاته. لا معنى لنا بشكل جمْعي حين نكرّر الأخطاء والمثالب والانهيارات والانكشافات والاختراقات والغباء ذاته.
ضيافة هذا المقال في حضرة علي بن الحسين بن علي المسعودي صاحب «مروج الذهب» في جزئه الثالث.
حدّث المنقري (محمد بن سليمان بن داود البصري المنقري الجوهري أبوجعفر، أحد رواة الأخبار، روى عن العتبي وغيره، وروى عند المسعودي صاحب «مروج الذهب»)، قال حدّثني سويد بن سعيد، قال: حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن محمد بن عبدالرحمن، عن أبي مسلم النخعي، قال: رأيت رأس الحسين جيء به، فوُضع في دار الأمارة بالكوفة بين يدي عبيدالله بن زياد، ثم رأيت رأس عبيدالله بن زياد قد جيء به، فوُضع في ذلك الموضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار قد جيء به فوُضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير قد جيء به فوُضع في ذلك الموضع بين يدي عبدالملك بن مروان».
وفي الخلل ذاته، والأخطاء التي باتت رايات ترفع كما تُرفع رايات النصر، تأخذ تلك الكوارث مداها كأنها تؤثث مصير العالم بالعدم.
دخل عبيدالله بن العباس يوماً على معاوية وعنده قاتل ابنيْه، بسْر بن أرطأة العامري، فقال له عبيدالله: أيها الشيخ، أنت قاتل الصبييْن؟ قال: نعم. قال: والله لوددْت أن الأرض أنبتتْني عندك يومئذ. فقال بسْر: فقد أنبتتْك الساعة. فقال عبيدالله: ألا سيف. فقال بسْر: هاك سيفي. فلما هوى عبيدالله إلى السيف ليتناوله قبض معاوية ومن حضره على يد عبيدالله قبل أن يقبض على السيف. ثم أقبل معاوية على بسْر فقال: أخزاك الله من شيخ، فقد كبرت وذهل عقلك، تعمد إلى رجل موتور (الذي قُتل له قريبٌ فلم يطالب بدمه) من بني هاشم فتدفع إليه سيفك، إنك لغافلٌ عن قلوب بني هاشم، والله لو تمكّن من السيف لبدأ بنا قبلك. قال عبيدالله: ذلك والله ما أردت.
وحبس الحجّاج إبراهيم التميمي بواسط، فلمّا دخل السجن وقف على مكان مُشرف ونادى بأعلى صوته: «يا أهل بلاء الله في عافيته، ويا أهل عافية الله في بلائه، اصبروا». فنادوْه جميعاً: لبيك لبيك. ومات في حبْس الحجّاج، وإنما كان الحجّاج طلب إبراهيم النخعي فنجا، ووقع إبراهيم التميمي. وحكي عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم النخعي: أين كنت حين طلبك الحجّاج؟ فقال: بحيث يقول الشاعر (من البحر الطويل):
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى
وصوَّتَ إنسانٌ فكدْت أطيرُ
وحدّث المنقري، عن العتبي، عن إسحاق بن إبراهيم الصباح بن مروان، وكان مولى لبني أمية من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظاً لأخبار بني أمية، قال: لبس سليمان بن عبدالملك بن مروان يوم الجمعة في ولايته لباساً شهر به، وتعطّر، ودعا بتخْت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمُّ بواحدة بعد أخرى حتى رضي منها بواحدة، فأرخى من سدولها، وأخذ بيد مخْصرة (ما يُتوكأ عليه كالعصا)، وجمع جَمْعَه، وخطب خطبته التي أرادها، فأعجبتْه نفسه، فقال: أنا الملك الشاب السيّد المهاب، الكريم الوهّاب.
وذكر إبراهيم بن المهدي قال: «استأذنت على الأمين يوماً؛ وقد اشتدّ الحصار عليه من كل وجْه؛ فأبوا أن يأذنوا لي بالدخول عليه، إلى أن كاثرت (أمعنت في الطلب) ودخلت، فإذا هو قد تطلّع إلى دجلة بالشبّاك، وكان في وسط قصره برْكة عظيمة لها مخترقٌ إلى الماء في دجلة، وفي المخْترق شبّاك حديد، فسلّمت عليه وهو مقبلٌ على الماء، والخَدم والغلمان قد انتشروا إلى تفتيش الماء، وهو كالوَاله، فقال لي وقد ثنّيت بالسلام وكرّرت: لا تدري يا عمي، فمقرطتي قد ذهبتْ في البرْكة إلى دجلة، والمقْرطة: سمكة كانت قد صِيدتْ له وهي صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبْتادر، وقيل ياقوت. قال: فخرجت وأنا آيس من فلاحه، وقلت: لو ارتدع من وقت لكان هذا الوقت.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3540 - الأربعاء 16 مايو 2012م الموافق 25 جمادى الآخرة 1433هـ
ياجمري لنتطيب من عبق التاريخ الشاعر عبدالرحمن المعاوده
(ما للغريب بها يعيش منعما)
وطني وإن اصبحت فيك معذبا
يجني عليّ تحفزي وإبائي
فهواك في قلبي وذكرك في فمي
رغم الخطوب ودعوة الدخلاء
هدفي علاك وإن تجهم دونها
هذا الزمان وزاد في الغلواء
ومناي أني لا أراك مصفّدًا
وعداك تمشي مشية الخيلاء
يا فتية البلد المهيض جناحه
أو تجهلون معيشة الكرماء
أم قد قنعتم بالقليل ورضتمو
هذي النفوس على احتمال الداء
أبَني أوالَ وإنها لخريدة
ووديعة الآباء في الأبناء
أبني أوال وإنها بجهودكم
وجهادكم ان صح في الجوزاء
...ديهي حر
سلمت أناملك
لو يتعض الإنسان لأتعض بالموت
أليس
كفى بالموت واعضا
ولكن غلبت على الناس بعد الأمل
وأتوب إلى الرحمن من سنتين
أو اسرق فأستحق سيئة وأتصدق فأكسب عشر حسنات
والحسنات يذهبن السيئات