العدد 3539 - الثلثاء 15 مايو 2012م الموافق 24 جمادى الآخرة 1433هـ

المسايرة الاجتماعية... الاهتمام بالوقت مثالاً

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

لو كان لدينا شيء من الجرأة مع واقعنا الاجتماعي في محاولة نقده نقداً ذاتياً بناءً، فإننا نقول إن من أبرز عوامل إهدار الوقت شيوع «المسايرة الاجتماعية» conformity وهو من الأمراض الاجتماعية الشائعة في الأسرة العربية. فالتنشئة الاجتماعية في بعدها الواسع - وبكل بساطة - ما هي إلا عملية تلقين الفرد قيماً ومقاييس ومفاهيم مجتمعه الذي يعيش فيه، بحيث يصبح الفرد متدرباً بارعاً على إشغال مجموعة أدوار تحدد نمط سلوكه اليومي بما في ذلك عاداته وطريقة تفكيره وكيفية توزيع وقته، وكذلك أولوياته وقائمة نشاطاته ضمن جدوله الزمني.

تبدأ عملية «إهدار الوقت» في البداية تحت مظلة المحاكاة وتقليد أدوار الآخرين، فالطفل يرى ويلاحظ سلوك الكبار، فيتربى منذ الصغر على محاكاة سلوك من يحيطون به، فيكتسب منهم الأدوار الاجتماعية التي تدخل ضمن الترس الكبير لدوامة الحياة فلا يستطيع الانفكاك من حالة الاندماج غير الواعي خصوصاً وأن الناس تخلط بين النشاط والانجاز. فهناك أنشطة إنجاز وهناك أنشطة إهدار. وهو صاحب «العقلية السنجابية»، فالسنجاب كثير الحركة لكنه قليل النتائج لأنه لا يخطط للمستقبل. والجانب الرديف لهذه الحالة (ولعله سبب مهم لتعميق هذه الحالة) هو غياب الدراسات العلمية والاستفتاءات العامة في مجتمعاتنا العربية، والتي قد تساعد على بناء تصور يتيح للفرد والأسرة الانطلاق في علاقات سليمة لبرمجة نشاط مواردنا البشرية بما يوصلنا إلى منافسة الشعوب المنتجة والمتميزة. هنا يبرز السؤال: أين موقع الفرد من خريطة العطاء الإنساني وسط هذا الفضاء الاجتماعي؟

يمكننا القول إن الناس أربعة: الشخص الناجح الذي يوفّق بين تطوير قدراته وملكاته وفي الوقت نفسه يخدم المجتمع (خير الناس انفعهم للناس)؛ والنموذج الثاني المنشغل بذاته ولسان حاله يقول أنا وبعدي الطوفان؛ أما النموذج الثالث فهو المهمل لذاته المقصر في تنميتها وصقلها والحفاظ على درجة من الأداء المتزن بين تنمية ذاته وعطائه للناس؛ وأخيراً النموذج السلبي الذي يقبل أن يعيش حياة لا مناقب يؤثر بها ولا صفات حميدة تخلد ذكره إن حضر لا يعد وإن غاب لا يفتقد. وأبرز صفة لهذا النمط هو الانشغال بدائرة الأكل والنوم، يقول لقمان «لا تكثر من النوم والأكل فإن من أكثر منهما جاء يوم القيامة مفلساً من الأعمال الصالحة».

التوجيه بدفع الناس للمربع الأول (الشخصية الناجحة) حيث التوازن في تنمية الذات وخدمة المجتمع، ما يعني التجسيد الفكري للآية «إن خير من استأجرت القوي الأمين»، أو لنقل (كفاءة+ إخلاص)، لأن الإنسان يشكل الثروة الحقيقية لأية أمة، وعلى الأخص الشباب عصب تلك الثروة، ومن المهم التركيز على بنائه وتشجيعه في عالمنا الإسلامي والعربي لأن تلك الطاقات هي أقرب إلى التهميش في الوقت الذي نجد أن نفس هذه الطاقات عندما تتواجد في الخارج تفرض وجودها على مستوى مراكز الأبحاث العلمية المتقدمة وكبريات الجامعات في كل من أوروبا وأميركا.

من المهم أن تحسن الأمة استيعاب أبنائها وتربيتهم على قيم الحرية وتنمية الذات وإدارة الوقت والمسئولية الاجتماعية، فالدراسات الجاهزة من المؤسسات الأجنبية قد لا يعنيها واقعنا أو مستقبلنا. فعندما نطالع على سبيل المثال كتاب «إدارة الوقت: سلسلة فن وعلم إدارة الأعمال»، وهو من الكتب المترجمة من قبل معهد الإدارة العامة، فإننا نجد ما يقارب ستين مقالاً وبحثاً، لكننا لا نجد مقالاً واحداً يتعرض للبعد النفسي أو الاجتماعي لإدارة الوقت في مجتمعاتنا، وهذا لا يعني عدم التفكير أو حتى مجرد محاولة التفكير للقيام باستفتاء عام حول إدارة الوقت وعلاقتها بالضغوط الاجتماعية في وطننا العربي، فقد نحصل على مؤشرات من هذه الدراسات والاستفتاءات قد تذهلنا، أو قد تقودنا إلى صياغة معطيات جديدة في واقعنا الاجتماعي والإداري.

ومن خلال الدراسات الجادة قد نستطيع أن نبشّر بقدوم مدرسة عربية للإدارة تنطلق من خصوصيتنا الثقافية والاجتماعية على غرار المدرسة اليابانية التي اهتمت بالوقت وأوقات الفراغ، فالتحولات الكبيرة في فكرة علم اجتماع الفراغ لم تأت إرهاصاتها إلا من خلال الدراسات. على سبيل المثال لا الحصر، أجرت وزارة العمل الألمانية العام 1973 استفتاءً حول أيهما الأفضل والأهم للفرد: التمتع بأوقات العمل أم بأوقات الراحة؟ وكانت النتيجة أن 66 في المئة فضّلوا أوقات الراحة على أوقات العمل.

هذه النتائج ليست للترفيه أو المتعة، بل هي التي جعلت الباحث الغربي يترجم دراساته إلى قرارات انعكست على المنظمة الإدارية والأسرة والأفراد. ويلاحظ الجميع أن بعض الدول بدأت تعيد النظر في إجازة نهاية الأسبوع، فعندما كان هناك يومٌ واحدٌ للإجازة (يوم الجمعة) أصبح الآن يومان (الخميس والجمعة أو السبت) وهناك تفكير جاد في بعض الدول لجعل الإجازة ثلاثة أيام في الأسبوع!

الدراسات العالمية تشير إلى أن الفرد عندما يبلغ سن السبعين، فإنه سوف يصرف هذا العمر كالتالي: 24 سنة في النوم، 14 سنة في العمل، 8 سنوات في الترفيه، 6 سنوات في الطعام، 5 سنوات في المواصلات، 4 سنوات في النقاشات، 3 سنوات في التعليم، 3 سنوات في القراءة، 3 سنوات في مشاهدة التلفزيون، 5 شهور للعبادة!

نعم! الحياة العظيمة يجب أن تقاس بالأعمال وليس بالسنين، وفي تقديري أن الدراسات والبحوث والاستفتاءات تقودنا حتماً إلى معرفة شبكة القيم الناشطة بين جيل الشباب، ومن ثم العمل على رسم خريطة للتغيير الثقافي وفق منهج علمي يركز على الدراسات الاجتماعية التحليلية.

هذه الدراسات طوعها الباحث الأجنبي، فتاريخياً كانت العائلات الأوروبية في الأربعينيات والخمسينيات تركز جل انتباهها على السكن والأثاث والكماليات، ولا تُعير أهميةً كافيةً لأجهزة وخدمات الفراغ والترويح، لكنها بعد ذلك بدأت تعطي أهمية بالغة لأنشطة وأجهزة وخدمات الفراغ والترويح، ومن ثم بدأ التحول الكبير والنوعي في قيم هؤلاء، فارتفعت استشارات العائلة في مجالات الثقافة وتطوير الشخصية من خلال أوقات الفراغ، حيث أخذت معظم العائلات والأسر (بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية والمهنية والثقافية) بالتركيز على ممارسة أنشطة ثقافية وتربوية، والذي من شأنه أن يطوّر قابلية الإنسان ويفتح مواهبه ويعمل على توظيف قدراته الإبداعية الكامنة. لسنا هنا بصدد المقارنة بين مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الغربية أو الشرقية ولا حتى المفاضلة بينها، فنحن نعتز بمجتمعنا وبثقافتنا الإسلامية، لكن لنا وقفة تأمل مع العادات والأعراف التي قد نتفق على أنها ليست مقدسة!

إن شروط التغيير (أو التبشير بمفاهيم وعادات جديدة) تبدأ على شكل أفكار ومفاهيم يتم تباحثها وتدارسها وإثارة الحوار حولها، لكي ننتقل بعد ذلك إلى حالة جديدة وصحية.

مازلنا هنا نتساءل: هل يمكننا أن نبشّر بنمط جديد من العلاقات الاجتماعية يتم فيه مراعاة الانشغال الداخلي بتنمية الذات وفي الوقت نفسه خدمة الناس؟ أو طرح مفاهيم جديدة في التدريب على «فن المعاشرة» وليس المسايرة؟ لأن المسايرة على حساب الإنتاجية والتنمية والعطاء الحقيقي هو وضع اجتماعي يغري الغرباء بانتهاك إنسانيتنا، ويزيد من لذة التفاعل الاجتماعي الفطري الغريزي غير الهادف، ويدعم الميل نحو التسلية والتأنس والمؤانسة فقط! ولطالما كرّرنا في قاعات الدرس والتدريب على مسامع الناس «إذا لم تكن لك خطة فأنت ضمن خطط الآخرين». ومسايرة الآخرين تعني أنك بلا هدف محدد وبلا خطة.

اختم حديثي بنقطتين... النقطة الأولى: جميلٌ أن نكون مستقلين عن الآخرين ولكننا على وفاق معهم؛ والثانية: أن نتذكّر أن لكل شيء جلاء، وجلاء القلوب الموعظة.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3539 - الثلثاء 15 مايو 2012م الموافق 24 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً