كثيرا ما ادعى المحلّلون أنّ تونس قد ابتعدت كل البعد عن عروبتها بفعل توجّهات الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة والتي كرّسها من بعده الرئيس المخلوع. ورأوا في توجّهها الغربي تنكّرا لعروبتها بل وإسلامها وارتماء في أحضان الفرنكوفونية والعلمانية. ولئن أكّد الشعب التونسي جيلا بعد جيل بطلان هذا الادعاء فإنّ الدولة التونسية لم تثبت انتماءها العروبي والإسلامي بقدر ما أكّدته توجّهات الحكومة الحالية وخاصة من خلال هذه الالتفاتة الواسعة لدول الخليج العربي.
إن العلاقات الاقتصادية والثقافية والدينية تاريخيا بين تونس ودول الخليج العربي لا تحتاج لبيان، ولكن ربما للتذكير فقط نسوق مثالا من التاريخ الحديث فعلاقات التعاون بين الدولة الحسينية في تونس ودول الخليج في القرن التاسع عشر خير دليل على أواصر التعاون، كما أن الرحلات الوطنية والثقافية التي قام بها الشيخ المصلح عبدالعزيز الثعالبي من تونس إلى الكويت والبحرين... دليل آخر على عمق التواصل الفكري والثقافي بين رواد الإصلاح في مطلع القرن العشرين ولقد بلغ التفاعل الثقافي أبعد مداه بين بيئة الكويت ورحلة الشيخ الثعالبي حيث «سلكت أفكار الثعالبي طريقها في التبلور داخل ثقافة الكويت فكانت استجابتها المباشرة في الدعوة إلى إصلاح الحكم والإدارة وإنشاء المجلس النيابي» كما جاء في كتاب إبراهيم عبدالله غلوم بعنوان الثقافة وإنتاج الديمقراطية (2002).
أما اليوم وبعد التحوّلات الجذرية في البلاد التونسية، ورغم قوة التبادل الاقتصادي مع الشريك الأوروبي (83 في المئة من حجم التبادلات) فإن تونس الجديدة مصرّة على الانفتاح على العالم عموما ودول الخليج العربي خصوصا. فها هي تركيا وها هي الصين وإيران وألمانيا وغيرهم كثيرون يتنافسون على الاستثمار في هذه البلاد بعد أن رحلت عنها طاحونة الفساد المالي والإداري والسياسي التي كانت تعرقل كل استثمار وهذا ما أكده الرئيس التونسي المنصف المرزوقي خلال زيارته الأخيرة للكويت حيث أشار إلى أنّ «تونس، مجتمعا ودولة، ليس فيها فساد الآن، بل هناك عدالة مستقلة تفصل بين مختلف الأطراف وأنّ الذي يقرر الاستثمار في تونس سيكون رابحا ماديا ومعنويا» ولم تكن زيارته للكويت ذات غايات اقتصادية بالدرجة الأولى بل سعى قبل ذلك إلى إعادة اللحمة والروابط ومد جسور الثقة بين البلدين وقد اتجه المرزوقي إلى الكويت ويسبقه في ذلك رصيد من الاحترام تكنه إليه دولة الكويت بسبب موقفه القديم الرافض للغزو العراقي للكويت ما كلفه آنذاك على حد تعبيره «عزلة بين المثقفين».
وقد نجد مصداقا لتحليلنا في قراءة سريعة لتحركات الدبلوماسية التونسية حيث مثّلت زيارة رئيس الحكومة التونسية حمادي الجبالي إلى المملكة العربية السعودية فرصة للتعريف بمناخ الاستثمار في تونس اليوم ولم يتأخر رجال الأعمال السعوديين عن تلبية الدعوة والذهاب إلى تونس لدراسة إمكانية إقامة مشروعات اقتصادية مهمّة شأنهم شأن المستثمرين من مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة وما ذلك إلا دليل على عودة الثقة بين دول الخليج وشقيقتهم تونس.
كما أكّد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في حوار لـ «الشرق الأوسط» أن تونس جزء من العالم العربي، تحرص على إقامة علاقات جيّدة على أساس الأخوة والتعاون المشترك ولم تقتصر زيارته على قطر – كما يروّج البعض – وإنما شملت الجزائر وليبيا والمغرب ومصر مؤكدا ضرورة إعطاء العلاقة بين تونس والدول العربية المكانة الأولى لعلاقات تونس الدولية.
ومن جهته أكد وزير الخارجية التونسي أن السياسة الخارجية لبلاده تضع ضمن أولوياتها بعد نجاح الثورة تفعيل وتعميق علاقاتها مع أشقائها العرب ومحيطها المغاربي والإفريقي مؤكدا أن تونس بدأت تخرج من أزمة ما بعد فرار المخلوع بعودة الاستقرار السياسي والأمني، ما مكن من تحقيق معدلات تنمية مهمّة. وأشاد وزير الخارجية التونسي رفيق عبدالسلام في افتتاح ملتقى الأعمال الإماراتي التونسي بأبوظبي بالدعم الذي وجدته تونس من أشقائها في الإمارات – وخاصة المساعدات لإيواء اللاجئين من ليبيا في الصائفة الماضية - وكان وزير الخارجية التونسي قد أكّد في أعمال القمة العربية الأخيرة أن موقف الجمهورية التونسية ثابت وداعم لسيادة الإمارات على جزرها وأكد أن الإمارات تربطها بتونس علاقات طيبة ومتميزة يسودها التفاهم والتعاون في شتى المجالات.
على صعيد آخر جال المستثمرون التونسيون في دول الخليج مطلع هذا العام حيث نظمت غرفة التجارة والصناعة بمدينة صفاقس التونسية جولة ناجحة بدول الخليج العربي امتدت من 23 يناير/ كانون الثاني حتى 2 فبراير/ شباط بدأت من الكويت ثم البحرين فالإمارات وقد أسفرت الجولة عن رضا تام لرجال الأعمال الذين شاركوا فيها وقد تمّ إبرام عدّة اتفاقيات شراكة مع الوفد التونسي في هذه الدول.
إن هذه القراءة السريعة للجهود التونسية على أكثر من صعيد للدفع بالعلاقات التونسية الخليجية تؤكد أن تونس اليوم تتطلع إلى نسج علاقات متينة وجديدة مع دول الخليج العربي فهي الدائرة الثانية بعد المغرب العربي لذلك تحرص الخارجية التونسية على عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وهو ما ميّز حضور الجاليات التونسية في الخليج فرغم الانتشاء بالثورة في تونس فإن هذه الجالية المقيمة في دول الخليج لم تتدخل في توجيه الحراك الاجتماعي أو السياسي في بعض بلدان الخليج وذلك من باب احترام الشئون الداخلية.
أما داخل تونس فإن القائمين على القطاع السياحي مثلا شرعوا في تنويع المستهدفين بالمنتوج السياحي التونسي والارتقاء به إلى مستوى الآمال التي يعلقها عليه السائح الخليجي وذلك بإضافة أنواع أخرى من الخدمات السياحية مثل سياحة المؤتمرات والسياحة الثقافية والدينية فضلا عن السياحة «الكلاسيكية» بما تتوفر عليه تونس من شواطئ ذهبية وصحارى وواحات ومدن تقليدية وحديثة أيضا صارت بعد الثورة مزارا للسائحين في تونس.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3538 - الإثنين 14 مايو 2012م الموافق 23 جمادى الآخرة 1433هـ
مفيد
شكرا لك أخي سليم أنا استمتع بقراءة ما تكتب
شكرا لك من الأعماق ووفقك الله إلى كل خير
أنا أجد ما تكتبه جيّد ومفيد
وفقك الله وأعانك
تونس مع الشرعية في الخليج
شكرا على المقال الدي اوفي
بالغرض ويبدو الغرض ارسال رسالة اطمئنان ولفت نظر
شكرا
كتاب مهم
«سلكت أفكار الثعالبي طريقها في التبلور داخل ثقافة الكويت فكانت استجابتها المباشرة في الدعوة إلى إصلاح الحكم والإدارة وإنشاء المجلس النيابي» كما جاء في كتاب إبراهيم عبدالله غلوم بعنوان الثقافة وإنتاج الديمقراطية (2002).
حقا هذا كتاب مهم يستحق القراءة
شكرا على إحالتك على هذا المرجع
هل تونس تبحث عن حل جذري؟
هل الحل برأيك في الارتماء في أحضان الخليج بدل أروبا
أعتقد الحل في التعويل على الذات والتخطيط لاستراتيجيات مستقلية تخرج بالبلاد من المأزق
عموما بارك الله فيك على طرح مثل هذه المواضيع الحيوية عربيا
شكرا على الموضوع
موضوع يثير نقاط بحث كثيرة خاصة في ما يخص الدور التونسي في الخليج مطلع القرن 20 ورحلة عبد العزيز الثعالبي
شكرا مرة أخرى
السياحة
نعم تطوير القطاع السياحي قد يساعد على ذهاب السائح الخليجي إلى تونس
وهي رائعة وقد زرتها مرارا
تونس اليوم
تونس اليوم تتطلع إلى نسج علاقات متينة وجديدة مع دول الخليج العربي فهي الدائرة الثانية بعد المغرب العربي
نرجو لتونس وشعبها الرائع كل التوفيق
إلى متى؟؟؟؟
قوة التبادل الاقتصادي مع الشريك الأوروبي (83 في المئة من حجم التبادلات
فغلى متى تبقى تونس في تبعية للغرب
يجب على إخوانها العرب تقديم الدعم لا في شكل هبات ولكن في شكل مشاريع استتثمارية
تونس ودول الخليج بين الأمس واليوم
عنوان جذاب ومقال حاول ملامسة العديد من النقاط المهمة في هذه العلاقة لكن سكت أيضا عن الدور القطري في تونس اليوم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟