لم يعد المنبر في اللغة؛ كما يرِد في «القاموس المحيط» فقط مرقاة متنقلة ذات درجات. هو الحيّز، المكان الذي يتصدّى فيه فرد أو أفراد لإيصال معنى أو قيمة أو حتى إحداث فتنة؛ ولو كان الحيز رصيفاً أو مقهى أو «هايد بارك»؛ أو حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتعدد أوجهها وإمكاناتها. الإعلام اليوم بات هو المنبر المتسيِّد، ويوجِّه أو يزوِّر الوعي والمدارك؛ أو يعيدها إلى رشْدها. نادر هو الإعلام الذي يقوم بالدور الأخير.
كتبتُ قبل سنوات، أن للمنبر رهبة ولا يشعر بتلك الرهبة إلا الذين لم يمسسْهم سوء الكذب والدجل وتهييج الناس ووضع مخططات لتقسيمهم. أولئك لا يشعرون بالرهبة حين يعتلونه؛ لأنهم وُجدوا أساساً، ووجدت المنابر المتوافرة لهم لبث الرعب والخوف والقلق والوهم في قلوب الناس والحياة من حولهم عموماً؛ باستثناء أنهم المنقذون والمخلّصون الذين جاءوا في اللحظات الحاسمة.
قد يذهب تفكير كثيرين إلى المنبر الديني. أذهب بهذه الكتابة إلى المنبر عموماً؛ باعتباره منصّة وواجهة خطاب أو منصّة بيان أو فكرة أو إعلان؛ وإن اتضح أن التأثير الغالب والمحرّك اليوم يتمثل في منابر الدّين وخصوصاً في بلدان الشرق؛ لكن منابر السياسة اليوم تتحكّم في أشكال ومضامين الدول، فعلى رغم هيمنة وسطوة المنابر الدينية إلا أنها لا ترسم سياسات دول باقتصادها واجتماعها وعلاقاتها الدولية. المنابر السياسية هي من يفعل ذلك، وخصوصاً المنابر التي يعتليها متحدّثون رسميون باسم دولهم؛ أو أعضاء في المطبخ السياسي؛ أو من يمثلهم في الظل وما بعده!
ما نخشى منه هو اختطاف إرادات الناس وخياراتهم عبر المنابر؛ بغضّ النظر عن اليافطة والتوجّه الذي تخرج به على الناس.
يخرج الاقتصادي على الناس متحدثاً باسم دولته بأرقام ومؤشرات تطمئنهم على الغد؛ فيما هم خارج سياق التاريخ بالأداء على الأرض. يبيع الوهم للناس كما يبيع أحدهم الفجْل أو المياه الغازية، لا فرق.
يخرج السياسي على الناس بحُزَم من الشعارات مع لحْن في اللغة فيثق الذين أوتوا حظاً من مكر ودراية أن الرجل كذّاب فصيح! فيما آخرون في الدَرَك الأسفل من الوعي يكادون أن يشهدوا أنه إله!
يخرج رجل دين على الناس من على المنبر مقرراًَ حجز أجنحة وأرقام في الجنّة لمن ارتأى وأراد، وفي الوقت نفسه يحجز مقامعَ وهوَّات في الدَرَك الأسفل من النَّار لمن اشتهى وأراد، وربما تيقّن أن تلك هي أمكنتهم ومصائرهم؛ فيما الرجل لا يُحسن قراءة آية واحدة من كتاب الله دون لحْن؛ ولا يأخذنّ بك الاستغراب مأخذه إذا وصلك شيء من جهل الرجل إياه وعدم معرفته بتراتب غسل الجنابة!
يخرج الثوري المؤدلج المنعزل عن واقع مكانه وزمانه على الجماهير بوصفات جاهزة للحياة، وأخرى جاهزة للموت بحسب المواصفات. الكلام لا يكلّف شيئاً ولكنّ معادن استقباله تتنوّع وتتعدّد وأكثر الكلام الذي تضخّه أو تفحُّه المنابر لا يمكن إحصاء كلفته على الحياة؛ ناهيك باحتوائه.
الشاعر هو الآخر لم ينجُ من الفخ. فخ أن يختبر نصّه بتصفيق الناس له. كلما كثر الشتم والخلاعة وسوء الأدب كان ذلك مفتاحاً لتفاعل جمهور حُرم من التنفيس عن قمع يطوله من يوم صرخته الأولى بقدومه إلى الحياة وحتى حمله على نعش.
اليوم ثمة منابر على اختلاف توجهاتها؛ إلا ما ندر، هي بمثابة منصّات للتدمير وقواعد لراجمات صواريخ من نوع آخر. ثمة منابر اليوم تعد الناس أو تبيعهم الوهم ويظلون مع استشراء ذلك الوهم أمماً خارج سياق الزمن، وخارج سياق اللحظة ناهيك عن إمكان الحديث عن انتمائها إلى المستقبل.
لم يخلُ المنبر عبر تاريخنا الممتدّ في المصادرات واستملاك الناس، من الحطّ من قيمتهم وتذكيرهم بأنهم لا شيء يُذكر. فقط هم موضوع هيمنة لابد منه، ومن دونهم لا يمكن لتلك الهيمنة أن تأخذ دورها وحضورها وامتدادها.
من خطبة لأحد إرهابيي تاريخنا البعيد (الحجاج بن يوسف الثقفي): «يا أهل العراق، طالما سعيتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، وسننْتم سنن السوء، وتماديتم في الجهالة، يا عبيد العصا وأولاد الإماء، أنا الحجاج بن يوسف، إنّي والله لا أعِدُ إلا وفّيت، فإياكم وهذه الزرافات والجماعات، وقال وقيل، وما يكون وما هو كائن، وما أنتم وذاك يا بني اللكيعة؟ (اللئيمة) لينظر الرجل في أمر نفسه، وليحذر أن يكون من فرائسي».
يذكّرنا ذلك بمقبور ليبيا معمر القذافي الذي خاطب شعبه من أحد جحوره قبل الطوفان: من أنتم؟ عدا وصفهم بالكلاب والفئران والحشرات.
في عيد الأضحى لم يتردّد خالد بن عبدالله القسري في ذبح الجعد بن درهم أسفل المنبر الذي منه ختم خطبة العيد.
عن عبدالصمد بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جدّه قال، شهدت خالد بن عبدالله القسري يخطب يوم النحر فقال، من كان منكم يريد أن يضحّي فليضحِ بارك الله في أضحيته، أما أنا فمضحٍ اليوم بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً سبحانه عمّا يقول الجعد علوّاً كبيراً ثم نزل فذبحه أسفل المنبر.
وفي تاريخنا لم تخلُ المنابر من وعيد وشتائم وادعاء وافتئات. منابرنا اليوم لا تنفصل عن منابر الأمس. منابر اختطفت حق الناس في أن تردّ على شتائم تطول أعراضها وآدميتها وقيمتها؛ فقط لأن الاحتكار طال كل شيء، والمنابر لم تكن في منأى عن ذلك الاحتكار.
خطبَ أبوجعفر المنصور في الناس بعد قتلِه أبا مسلم الخراساني، ومما جاء في كلامه كما يذكره المسعودي في «مروج الذهب»: «إنَّ من نازعنا عُروة هذا القميص أوطأْناه ما في هذا الغمد»!
كم من المنابر اليوم على اختلاف صورها أسهمت في ترميم حال التداعي الذي يعاني منه العالم، وتعاني منه مجتمعات تبحث عن خلاصها في كثير من الأحيان عبر الوهم وصنّاعه ومروّجيه؟ كم من المنابر اليوم أيضاً تتوجّه بكلية النية والصدق الخالص لفتح كوّة في هذا المدى المحاصر بأكثر من حرس وتُوَاجه بالتخوين والتسقيط والمبتذل والفاحش وسخيف الكلام وصفر الرؤية والقيمة؟ كم من المنابر اليوم استطاعت أن تعيد بعض الرشْد إلى العالم؟ كم من المنابر اليوم التي نجحت فعلاً في قيادة العالم نحو الجنون.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3537 - الأحد 13 مايو 2012م الموافق 22 جمادى الآخرة 1433هـ