لقد تعرضت العلاقات المصرية السعودية لاختبار قاسٍ في الفترة الماضية ولكن حكمة القادة من الطرفين أدت إلى تجاوز الأزمة وأعادت الوئام لأن قادة المملكة العربية السعودية يتذكرون نصيحة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود قبل وفاته عندما نصح أولاده بالاهتمام بمصر لمكانتها ودورها العربي والإسلامي على مر العصور. وشعب مصر الأصيل وقادته يدركون أهمية المملكة العربية السعودية ودورها في احتضان القضايا العربية والإسلامية ومواقفها المشهودة مع مصر بعد هزيمة العام 1967 وبعد حرب العام 1973 وفي مختلف الأزمات ومصر من جانبها لم تقصر يوماً في الدفاع عن الأمن القومي العربي أو عن الأمن الخليجي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي العربي.
إن هاتين البلدتين هما عماد العمل العربي المشترك وركيزتا الأمة العربية وخاصة في هذه المرحلة التي تواجه فيها الأمة العربية تحديات جمة ومخاطر عاتية.
لقد مرت مصر بعصرين من الفوضى الأول بعد الدولة الفرعونية القديمة، والثاني بعد الدولة الوسطى، وأدى كل عصر للتدهور والانحلال والقتل والدمار في صفوف الشعب حتى ظهر قائد جديد أعاد لمصر الأمن والنظام ومن ثم استطاعت أن تبني قوتها وتطرد الغزاة الأجانب.
وأخشى أن تشهد مصر الآن عصر الفوضى الثالث، بعد سقوط نظام حسني مبارك الذي بلغ من السوء مداه، وارتكب من الجرائم في حق الوطن ربما ما لم يرتكبه أحد من قبله، إذ حوّل مصر الدولة إلى عزبة إقطاعية له ولأولاده وأنصارهم وأصهارهم، والنخبة التي تمثل من حيث العدد نحو العشر من الواحد في المئة، ولذلك لما قامت ثورة رائدة في مصر ضده بقيادة شباب مثقف من الطبقة الوسطى أيدها الجيش المصري الباسل، والتف حولها الشعب بكل طوائفه، حققت الثورة إنجازاً عظيماً عجز الجميع، قبل توحد صفوفهم في الفترة من 25 يناير/ كانون الثاني إلى 11 فبراير/ شباط، عن تحقيقه.
ولكن وهنا تنبع المأساة ، بعد ذلك سرعان ما انقسمت قوى الثورة والقوى الشعبية والحزبية إلى فصائل متفرقة ومتناحرة ونافقت قطاعات واسعة من الإعلاميين والمثقفين جيل الشباب الذين أصبح بعضهم كنجوم السينما في الإعلام بصورة شبه دائمة، وكأن الإلهام والحكمة والخبرة نزلت عليهم فجأة، ولعب الضوء والبريق الإعلامي برؤؤس كثير منهم، وبرز فلول السياسيين القدامى من الأحزاب السياسية المحظورة وغير المحظورة وقوى الشباب الذين أدمنوا الظهور في القنوات الفضائية، واتفق الكل بوعي أو بغير وعي على تدمير مصر باسم الثورة، وباسم الإنقاذ وباسم الشهداء، وغير ذلك من المسميات في مليونيات متلاحقة ومطالب متنوعة دون تقدير للوقت اللازم وللموارد المتاحة أو لأهمية العمل بدلاً من التظاهر والاعتصام ليس فقط في الميادين العامة بل السعي لتخريب المنشآت المهمة مثل المتحف أو المركز العلمي أو وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع ولم يسلم مبنى مجلس الشعب من محاولة الهجوم.
إن الشعب المصري البطل عانى من القهر والقمع في عهد مبارك وبدرجات أقل في العهود السابقة عليه، ولذلك تعلم فضيلتين إحداهما الصبر على الظلم والظالم، والثانية مسايرة التيار الذي يراه سائداً أو غالباً بهدف الخروج من حال الفوضى التي عمت أرجاء الوطن وترتب عليها تدمير عدة ركائز وفي مقدمتها الشرطة والتشكيك في القضاء، والتشكيك في المجلس الأعلى للقوات المسلحة والتشكيك في الدستور، والتشكيك في الإعلان الدستوري وفي الانتخابات الحرة النزيهة لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وهذا يمثل قمة الفوضى فكل شخص يدعي أنه ثوري، وأن الآخرين بخلاف ذلك، وكل شخص ينظر للآخرين بأنهم يتآمرون ضده وهكذا. وحظي المجلس العسكري بأكبر قدر من التشكيك في نواياه وأفعاله رغم ما أعلنه مراراً وتكراراً عن رغبته في تسليم السلطة وفقاً للمواعيد المعلنة.
ولكن الأخطر غياب الرؤية الإستراتيجية عن الكثير من القوى المجتمعية والحزبية وانسياق الكثيرين وراء أفكار فوضوية عرفتها المجتمعات الأوروبية في القرنين 18 و19 وعرفها الفكر الأوروبي من فلاسفة أمثال ميخائيل باكونين وغيره فهم يهاجمون كل شيء ويتحدثون عن كل شيء ويشككون في كل شيء ويطالبون بما لا يمكن تحقيقه ويدافعون عن المخطئ مهما كانت أخطاؤه وسلوكه باعتباره ثائراً.
عاشت مصر بعد ثورتها المباركة عصر الفوضى الثالثة وغياب الرؤية الإستراتيجية وعدم وضوح الأولويات، فاتجه بعض من السياسيين الحزبيين بمختلف توجهاتهم الفكرية نحو الهدف الأسهل وهو الهجوم على سفارات دول معتمدة في مصر دون تقدير للعواقب. وقد حظيت للأسف سفارة المملكة العربية السعودية في القاهرة بنصيب كبير من هذا الهجوم لأسباب عدة سواء لحوادث ضد مصريين في السعودية يساء فهمها أو فهم القوانين التي تحكمها أو لنقص في التواصل الإعلامي والسياسي والدبلوماسي أو تحت تأثير قوى فوضوية أو مغرضة تسعى للوقيعة بين البلدين.
ونشير للحادث الأخير الذي نتج عن القبض على محامٍ مصري هو أحمد الجيزاوي وثارت ثائرة قوى معينة لأسباب غير واضحة، وفي تقديري أن الحادث يجب أن ينتظر القضاء العادل والحقائق السليمة، ولكن من الناحية القانونية فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهو في الوقت نفسه مهما كانت دوافعه سيئة أو بنية حسنة فقد أساء التقدير ويقع فريسة لفكر فوضوي ربما بحسن النية، أو من منطلق فكري غير سليم. وهكذا أساء الجيزاوي والذين هاجموا السفارة السعودية إلى 5 ملايين مصري في السعودية والخليج يعولون 20 مليون مصري أي إلى ربع شعب مصر وبهذه الرعونة في التصرف الانفرادي غير المحسوب العواقب.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3536 - السبت 12 مايو 2012م الموافق 21 جمادى الآخرة 1433هـ