إن من المؤشرات الإيجابية للإعلام الذي يتقيد بأخلاقياته وأدبياته المهنية والوطنية والإنسانية في الظروف المعتادة وفي أحلك الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، انه يسير في خط مواز مع المصالح الوطنية العليا، ويكون له الدور الأكبر في إبعاد البلد عن مساحات التأزم والتأجيج والتحريض الطائفي، فالواجب الوطني والأخلاقي والأدبي والمهني يلزم الإعلام الرسمي (المرئي والمسموع والمقروء) بالقيام بهذه المهمة الوطنية قبل غيره، وأن يكون خطابه لكل مكونات الوطن المذهبية والعرقية والقبلية والعشائرية، وأما إذا قام ببث روح الطائفية البغيضة التي تسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تفكيك أواصر المحبة والمودة والتآلف بين أبناء البلد، فانه يصبح طامة إعلامية كبرى ومؤشرا خطيرا، لخطورة ما يقوم به وما يصطنعه من فتن طائفية أو عرقية تؤدي إلى انعدام الثقة بين فئات المجتمع.
نقول: في حال تبني الإعلام نهجا بعيدا عن طموحات الوطن، فإنه يوجد الحواجز النفسية والأجواء غير الحميمة بين أطيافه وفئاته شاء ذلك أم لم يشأ، ويصبح الجار يتوجس من جاره، والصديق يتحسس من صديقه، على رغم أنهما لم يجدا من بعضهما إلا كل خير طوال حياتهما الاجتماعية، فكان كل واحد منهما يرى الآخر أنه الأخ الحميم الذي كان يقف معه في الرخاء والشدة من دون منّ، ولكن البرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات والتقارير الصحافية المكثفة كانت تحاول بالأسلوب الذي اتبعته في صناعتها إبعاد الناس عن واقعهم الحقيقي، ونقلهم إلى واقع مغاير تماماً، وكأن الغرض منه هو ترسيخ البغض والكراهية والحقد بين فئات المجتمع، من خلال استهدافه عمق علاقاته الاجتماعية والإنسانية والوطنية، التي جبل عليها إنسان هذا البلد، وكانت السمة البارزة له طوال وجوده الإنساني، والتي عرف نفسه من خلالها للعالم، لا أحد من العقلاء يستطيع القول ان من الصحيح تقسيم البلد طائفيا أو مذهبيا أو عرقيا أو قبليا، وتأليب فئة على أخرى، وإيجاد حالة من التوتر النفسي والأمني بينها، وإيهام الناس بوجود أعداء يعيشون بينهم، يريدون بحاضرهم ومستقبلهم شراً، ويقوم ببذل الجهود الكبيرة والمضنية ورصد الأموال الضخمة وقد يلجأ إلى نسج القصص الخالية الافتراضية التي لا وجود لها إلا في أذهان ناسجيها، وقد يستعين في أحايين أخرى ببعض شهادات الزور المعد إليها سلفا، مستغلا طيبة وعاطفة وثقة من استهدفهم بخطابه، ويعطي انطباعا سلبيا عن نهجه الإعلامي من خلال الشحن وصب الزيت على النار والتأجيج الطائفي البغيض الذي نتاجه التفرقة والتمييز بين أبناء الوطن، لإحداث خلخلة في دعائمه الإنسانية الأساسية لإضعافه.
ان مثل هذه الممارسات الخاطئة والمتجنية أحدثت شروخا نفسية واسعة في الأوساط الاجتماعية، وأدت إلى إضرار كبير بالنسيج الاجتماعي، الذي نسجه الأجداد ورسخه الآباء في نفوس الأجيال، ولم يعتد الوطن بطوله وعرضه، وفي شماله وجنوبه وشرقه وغربه على التراشق بين أبنائه بالقذف والبهتان واللمز والهمز، كان التعايش بين مختلف فئاته في أرقى مراحله قبل الحملات الإعلامية الطائفية المركزة، وان هذا الجيل والأجيال القادمة سيحملون الإعلام الذي قام بهذا الدور السلبي مسئولية كبيرة في تمزيق الثقة بين أطيافه الوطنية، وانقطاع التواصل الاجتماعي بينها، والذي كان من المفترض القيام بدوره الوطني في حفظ علاقاتها الوطنية والإنسانية والاجتماعية في الأزمات، السؤال الذي يطرح في المجالس والمنتديات الاجتماعية دائما، لماذا يلجأ الإعلام إلى اتباع نهج طائفي وهو يعلم علما يقينيا مدى خطورته على الوطن؟ هل كان يظن أنه بافتعاله أزمة قد ينهي أزمة أخرى؟
لم تكن قراءته للمكونات الوطنية قراءة صحيحة، ولم يكن يظن أنهم جميعا لن ينساقوا إلى الزاوية الحرجة التي رسمها لهم، فقد قرأ الجميع ما خلصت إليه اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق في تقريرها الصادر في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، إلى أن لغة الإعلام الرسمي في أحداث فبراير/ شباط ومارس/ اذار كانت مهينة وتحريضية، لم يكن أحد من عشاق هذا الوطن يرغب أن ينعت إعلامه بمثل تلك النعوت السلبية، ولم يتصور أحد أنه سيقوم بهذا الدور البعيد عن المهنية الإعلامية الحقيقية، وقد قال سماحة الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى عن الممارسات الخاطئة التي تمس مشاعر الإنسان أو معتقده السياسي أو الديني أو المذهبي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الحضاري: إن أي كلام يفيد منه الاستبداد السياسي، أو التظالم الاجتماعي، أو العطن الثقافي أو التخلف الحضاري لا يمكن أن يكون دينا، انه مرض نفسي أو فكري، والإسلام صحة نفسية وعقلية، لا نملك إلا أن نقول لأنفسنا ولغيرنا ان الوطن أمانة في أعناق الجميع، فلا يحفظ من كل سوء إلا بتلاحم أطيافه وفئاته وطوائفه الكريمة، وترك القيل والقال والهرج والمرج ومحاكمة النوايا، الامر يفتت اللحمة الوطنية ويمزق العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ونتعوذ بتعويذة رسول الله (ص): أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 3532 - الثلثاء 08 مايو 2012م الموافق 17 جمادى الآخرة 1433هـ