لا يستغني أحد منّا عن الافتراض لأكثر من سبب؛ من بينها تفادي ما يُخشى منه؛ أو محاولة تقريب صورة وإن بدتْ واضحة وماثلة وشاخصة؛ إلا أنها تظل غائمة أو مغمّاة في زحمة الحياة وتفاصيلها؛ وأحياناً يكون الافتراض لفهم غموض الحياة عموماً؛ أو لفهم غفلتنا عن ذلك الغموض الذي نراه؛ لأننا لم نصافح أنفسنا من الداخل؛ ولم نكن أصدقاء إلا لما/من يُفرد وضوحه ومباشرته لنا، وما بعد ذلك لا يعدو كونه غريباً عن كل ما يمتّ إلينا بصِلة.
وفي الافتراض محاولة اقتراب من مستقبل لا نراه. محاولة لرؤية ذواتنا فيه وفي حركته، سعياً وراء أن نكون أكثر قدرة على المواجهة، وأكثر قدرة على تجاوز كل منغّص وعائق، انطلاقاً نحو إعمار حيواتنا التي لن تعمُر الحياة من دونها. ولا يأتي الافتراض عبثاً، ولا يُلقى هكذا جزافاً. إنه بمثابة عصا نتوكّأ عليها لتلمّس طرقنا والأهداف التي نروم ونتطلع إليها، حين نكون محاصرين بأكثر من ليل، وموعودين بأكثر من ارتطام. وفي الذهاب إلى الافتراض لا ننفصل عمّا حولنا. نبدأ به وتشْخص أبصارنا وحواسنا وذاكرتنا إليه.
وفي الافتراض نبدأ بما نعاينه ونلمسه ونراه وعلى تواصل معه في حركة حياتنا اليومية. نبدأ بما نريده شاخصاً حيناً؛ أو نعمل على ألاّ يكون له أثر حضور بيننا.
ثم ماذا لو صحونا على وجوه وأصوات ومشاهد ومقاصد وجهات وقيم ونصوص ولوحات وموسيقى وطعام وشوارع وأفكار وأمكنة متشابهة؟ ماذا لو صحونا على الإيقاع ذاته والألوان والروائح ذاتها؟ ماذا لو صحونا على أصدقاء متشابهين حدّ التطابق في كل شيء؛ بدءاً بالأمزجة؛ وليس انتهاء بالأشكال وما تضمّها. وكما أنه لا حيوية في ثابت قبالة متحرك؛ لا حيوية في المتشابه والمتطابق والنسَخ الكربونية. الضجر مقيمٌ ومتوغّلٌ في كل شيء. ضجرٌ لا يترك لنا متسعاً للحركة واحتضان ما حولنا والانفتاح على الحياة وحتى على الأشياء.
التعدّد قدرةٌ على النظر بأكثر من عين وأكثر من رؤية ورؤيا. قدرةٌ على فهم ما بعد الظاهر من حولنا؛ توغّلاً إلى فهمه من الداخل.
وفي التعايش بين الأمم ومكوّناتها، تبرز تلك القيمة؛ قيمة أن يكون التعدّد محصّناً لها ودالاًّ على تنوّعها والثراء الذي يتيحه مثل ذلك التنوّع. إنه يصبّ في مجرى عافية الأمة وقدرتها على الذهاب إلى الحياة مبدعة خلاّقة وقادرة على اجتراح كل ملفت وجميل.
وفي المحن التي تتْرى عبر اختطاف خيارات الناس، في بروز حمَلَة البريد ونصوص النعي ومهندسي الكوارث الذين يتأبّطون خرائط الخسف والدمار وتقسيم المكوّنات وافتعال الحروب والشروخ، وابتكار جزر عزل وفصل؛ يصبح مثل ذلك التعدّد خطراً يهدّد مشروعاتهم، وينسف خرائطهم، ويضرب نواياهم ومساعيهم في مقتل. يرون في التعدّد تهديداً لـ «الواحدية»التي يتوهّمون ولا يرون نموذجاً جديراً بتمثلها غيرهم، ويجدون ما سواها اختراقاً لمناعتهم الهشّة أساساً.
في كتاب «يوميات الأذى» للشاعر العراقي سعدي يوسف، وفي مقالته «عرس بنات آوى الباريسي»، يكتب الآتي: «ما أجمل الفنان، وما أقبح السياسي». الفنان يذهب إلى التعدّد حتى النفَس الأخير. يبحث عن تعدّد رؤيته للحياة والعالم من حوله. لا يتعامل مع لون واحد، ولا يتعاطى مع مفردة واحدة، ولا ينحاز ويركن إلى رتْم موسيقي يجترّه، ولا يصطف مع تقسيم صوتي ينسخه، ولا ينتخب زاوية واحدة لمشاهد متكررة لالتقاط صيده. إنه ابن التعدّد الجميل، والتنوّع المفتوح على أوجه وصور وقيم الحياة نفسها؛ فيما السياسي يبحث عن قرينه؛ عمّا يشبهه ويشبه نواياه ومشروعاته وخططه وسهره على العصف والغيلة وتسميم الحياة وإرباكها. إنه المعنى ذاته الذي وصّفه أدونيس في «كأس الخرافة»: «قتلت السياسة وأهواؤها هاجس الحرية عند الإنسان. فما أكثر الذين يقاتلون اليوم باسمها؛ لكي يظلوا عبيداً».
والأنظمة المصابة برهاب التعدّد لن تستسلم له وستسعى جاهدة إلى فكّ الارتباط بين المكوّنات فيها وضرب لُحْمتها ودسّ العاطلين عن الحسّ والقيمة لنسف ما يقوّض تجانسها وانفتاحها وتآلفها. لا مصلحة لها إلا في الـ «الواحدية» في كل شيء. في المتشابه والشبيه لها والمساير والمتسق مع نهجها؛ وليس نهجاً ما هي عليه. إنه وصفة فوضى ودمار، وتركيبة تفكيك للمكوّنات والأخذ بها إلى الحدّ الأقصى من النفي والإلغاء والعدم.
لا ينقص هذا العالم التشابه. التشابه في كوارثه والمبرّرات والتجاوز والانتهاكات ومسبّباتهما. ينقصه أن يتعدّد في انفتاحه على الإنسان وقيمته والحياة ومعناها. ينقصه أن يكون متعدّداً في رؤيته وأفكاره.
كأنّ في التعدّد حيوية؛ بل هو كذلك. كأنّ الشكل والصوت الواحد ضجر؛ بل هما كذلك. لا ضجر في تعدّد المضامين والأشكال. الضجر والسأم يكمنان في المتشابه من الوجوه والأصوات والمشاهد والمقاصد والوجهات والقيم والمعاني والنصوص واللوحات والموسيقى والطعام والشوارع والأمكنة والألوان والروائح. والأهم من ذلك كله، التشابه في سياسات تأخذ هذا العالم وسكّانه إلى جحيم ترتئيه!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3530 - الأحد 06 مايو 2012م الموافق 15 جمادى الآخرة 1433هـ
استغرب
استغرب عدم وجود تعليقات. مقال واضح ويضرب على الوتر