لا يخفى على أحد أن العراق ما بعد 2003 تعرض إلى زلزال - إن جاز التعبير- عصف بكل هياكله السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، ولم يتبقَ له سوى إرادة البقاء وإعادة بناء الذات الجريحة. ولذا كان تواقاً لأن ينفض غبار الماضي متشبثاً بالروح الخلاقة لأبنائه الذين تنسب لهم ما حملته بطون التأريخ من مجد وعزة وفخر.
وعليه من اليسير علينا أن نضع المقاربات، وأن نتقافز على التجليات والأزمان كي نؤسس لحركة المستقبل. فإعلان بغداد المتمخض عن قمة بغداد، ارتكن إلى عدة من المقررات، التي من الممكن أن ترسم ملامح غد مشرق وتئد محن الماضي والحاضر على حد سواء.
ومن نافلة القول السياسي، أن العراق ووفقاً لتصنيفات التفاعل الدولي، كان يعد قبل عام 2003 على انه دولة «مقلقة» إقليمياً، والبعض في جواره الجغرافي يدرك على انه خطر، وكبريات الدول عدته في أدبياتها الاستراتيجية «دولة مارقة»، أي لا تحترم الشرعية الدولية، وهناك تقارير عالمية صنفته على انه دولة «فاشلة»، أي الدولة التي تملك الإمكانيات والموارد والثروات وغير قادرة على توظيفها خدمة لشعبها. وحين نبحث عن المغزى، نجد أنه ليس بزمن بعيد التصنيفات أعلاه كانت بشكل من الأشكال، بعضها أو كلها، تقترب من حال العراق آنذاك.
وما يهم في الأمر هنا، ها هو العراق يختزل الزمن ويلملم الهمم سبيلاً لتجاوز كبوات المحن التي تعصف في فضاء أدوارها بالأمم، حينما تمر بها الزلازل السياسية وإسقاطاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا ما حصل مع العراق من خلال توظيف محن الماضي وأخطائه، جاعلاً منها دروساً وعبراً في بناء الهيبة والمكانة والدور لدولة لطالما دلل التأريخ على أنها مؤهلة لذلك.
وجاءت مبادرة العراق بشأن النزاع الحاصل بين شطري السودان لتعبر عن «دور المسئولية» لعراق ما بعد القمة العربية 2012، إيماناً وحرصاً وتجربةً، بأن الحوار والتفاوض هو المسار الأنجع للتصدي للمشاكل والأزمات بأبعادها الداخلية والإقليمية والدولية، خصوصاً ونحن نعيش عصر إرادة الشعوب، وهو الزمن الذي قاد السودان إلى شطرين. وهذا ما يؤكده إعلان بغداد في المادة السابعة عشرة والتي مضمونها «دعم السودان في مواجهة كل ما يستهدف النيل من سيادته وأمنه واستقراره، ويثمنون إيفاء السودان بمستحقات السلام في إطار اتفاقية السلام الشامل ويحثون الدول الأعضاء ومؤسسات العمل العربي على تكثيف جهودها المادية والفنية لدعم الاقتصاد السوداني في مواجهة تداعيات انفصال جنوب السودان ومعالجة ديون السودان الخارجية بشكل ثنائي أو في إطار المبادرات الدولية الهادفة إلى معالجتها بما يسهم في إسراع معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبذل الجهود العربية للعمل معها على رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان والتأكيد على ضرورة تنفيذ قرارات القمم العربية السابقة المتعلقة بدعم السودان والترحيب بما تم إنفاذه في إطار تنفيذ وثيقة الدوحة لسلام دارفور».
وكي تأخذ مقررات إعلان بغداد حيز التنفيذ في معالجة المشاكل والأزمات التي تعتري العلاقات الإقليمية والدولية، وكون العراق يترأس الدورة الحالية لجامعة الدول العربية، وضمن هذا السياق، ساق مبادرته لحل الأزمة الراهنة بين شطري السودان. إذ اقترح تشكيل لجنة ثلاثية تضم «العراق رئيسا، والكويت الرئيس الحالي لمجلس الجامعة العربية، ومصر لما تملكه من علاقات تاريخية مع السودان، والأمين العام للجامعة العربية» بهدف التضامن مع السودان والتوصل إلى حل سلمي في أزمته مع الشطر الجنوبي.
فالعراق الذي أخذ على عاتقه ومنذ زمن ليس بالقريب، أن يكون عوناً دون أن ينتظر من الآخر رد دين المواقف أو مقابلة الآخر بالمثل، رغم أن الأخير هو منطق سياسي ودبلوماسي لا تحيد عنه الدول في إطار تعاملاتها وتأسيس علاقاتها في باحة التفاعل الدولي.
فهذه دعوة موجهة من العراق، وبرعاية جامعة الدول العربية، لشطري السودان لحلحلة كل ما هو عالق بين الطرفين، وبما يخدم مصالح شعبيهما، ويتماشى مع الواقعية السياسية وبما يضمن السلم والأمن بين الجانبين... فلا تضيّعوا الفرصة كونها وبطبيعتها لا تتكرر من جهة ولا يحمد عواقب التفريط بها من جهة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "نجلاء ثامر محمود"العدد 3529 - السبت 05 مايو 2012م الموافق 14 جمادى الآخرة 1433هـ