العدد 3528 - الجمعة 04 مايو 2012م الموافق 13 جمادى الآخرة 1433هـ

القادة الكبار... والاحتفاظ بالطاقة والحلم العظيم

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عندما نفكر في قائمة الأشخاص الذين عاشوا حياة موفورة بطاقة مرتفعة وتمتعوا بروح معنوية عالية، سنجد أن هذه الفئة من العظماء والمتميزين قد بحثوا عن ينابيع الطاقة داخل أنفسهم أولاً، ثم عرفوا الطرق المناسبة لشحن طاقتهم الداخلية.

من بين العلماء الذين بحثوا في هذا المجال العالم النفساني أبراهام ماسلو، حيث قام بإجراء أبحاث وعقد مقابلات مع هذه النوعية من الأشخاص (أصحاب الانجازات العظيمة) محاولاً الكشف عن سبب تميّزهم. ووجد أن هؤلاء الأفراد ذوي الطاقة العالية تعلّموا شيئاً لا يتعلمه أناس كثيرون، فأغلبهم يبدأون في الاقتراب من شيء روحي، يتجاوز حدود الوجود المادي.

الناس تعلم بكل عفوية وتلقائية أن التعلق وجدانياً بشيء ما في الحياة والولع به يكسب الإنسان طاقة عالية، على سبيل المثال فإن الإنسان يحب بصدق ما يفعله ويستمتع بعمله وأسلوب حياته. هذا الولع يشعره بالرضا والارتياح والحماس الشديد تجاه من يعمل معهم، وبالنتاج النهائي لحركته في الحياة. لذا يُقال الشغف معدٍ بمعنى عندما يكون هناك شغفٌ بشيء أو بشخص، فإن العدوى تنتقل لتشع في نطاق كل الحياة، وهكذا يتحقق التوازن، أي امتلاك حياة متوازنة تجمع بين الطاقة المرتفعة والعمل الجاد وبين الحياة المبهجة المفعمة بالسرور والإبداع.

لكننا عندما نرصد المشهد الاجتماعي يمكننا التوقف عند منطقة خطرة (منطقة رمادية) يعيش فيها قطاع عريض من الناس. هذه المنطقة لا تعرف النصر ولا الهزيمة، ولا يوجد بها استمتاع ولا تألم لأن الناس في هذه المنطقة ببساطة لا تفعل شيئاً، وإنما يكتفون بالتفرج ويمضي العمر دون أن تحقق انتصارات متميزة حتى لو تخلل هذه الانجازات الإخفاق والفشل. ويبدأ الدخول إلى هذه المنطقة عندما يؤثر الإنسان طريق السلامة ولا يطمح إلى تحقيق أهداف محددة، فإنه لا شعورياً يسجن نفسه داخل أسوار وهمية - أسوار التوسط والاعتدال - ويحرم نفسه من فرصة إحراز فوز كبير، إضافة إلى الإثارة والنشوة المصاحبة لهذا النصر والتميز.

في أحد اللقاءات سألني أحدهم: ما الذي يمكن أن يشعل حماسنا؟ قلت وبكل بساطة (تجدّد أو تبدّد)! يجب أن ننتبه إلى أنه إذا ضاع منا حماسنا نصبح بحاجة إلى اكتشاف السبيل لإشعاله مرة أخرى، وذلك بوضع حلم أو بتجديد الأهداف، لأن الحياة مستمرة.

الحياة تشبه إلى حدٍ ما مباراة بها لاعبون حقيقيون فاعلون ومؤثرون، والقطاع العريض يتفرج! العالم يقطنه ستة مليارات إنسان، والمؤثرون والقادة فيه يُعدّون على الأصابع. بل إن الأبحاث العلمية اليوم تربط بين وجود غاية وحلم وبين الصحة وتجربة بيرني سيجيل جديرة بالتأمل، فقد كان أستاذاً للجراحة في كلية الطب بجامعة ييل Yale في الولايات المتحدة الأميركية. أنشأ في العام 1978 جامعة مرضى السرطان المتميزين وهي تهدف إلى دعمهم وتشجيعهم على الصمود والكفاح، وكان رئيساً للجمعية الأميركية للطب الشامل العام 1988، وهي تدعو إلى التكامل بين الجوانب الجسمية والنفسية والروحية عند علاج المرضى. يذكر بيرني أن وجود غاية في الحياة يعد سبباً رئيسياً في شفاء بعض المرضى تماماً من السرطان.

إننا من خلال حقل جديد للدراسة يسمى «علم المناعة العصبية النفسية»، نتعلم أن مجرد التفكير في حلم أو هدف مثير وتصوره يتحقق، يمكن أن يؤدي إلى إفراز الجسم للكيماويات والهرمونات (مثل الاندورفينات) التي تعمل بدورها على تنشيط وتقوية جهازنا المناعي ومقاومة التوتر النفسي وخلق طاقة جديدة. ومن الناحية السلوكية فقد أمضى روبرت جرين ليف وزملاؤه سنوات طويلة يدرسون القادة وصفات القيادة واكتشفوا أن هناك صفة واحدة مشتركة تجمع بين القادة، ألا وهي أنهم أصحاب أحلام عظيمة.

أليس من المدهش أن نرى في مجتمعاتنا عدداً كبيراً من المتقاعدين، وبعضهم تقاعد مبكراً، لا يقوم بأي شيء سوى الأكل والنوم والترفيه، وشعاره إنني تعبت وأرغب أن أرتاح بقية حياتي! بينما الرسول (ص) يقول: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها».

ليس الهدف من عرض النماذج السابقة التشجيع على اتباع أسلوب معين في الحياة، لكننا عندما تحدثنا ذات مرة عن أهمية تجدّد الأهداف وكان الحديث يخص شريحة المتقاعدين، استذكرنا ما روي عن الإمام الصادق (ع) أن أحد أصحابه وهو معاذ بن كثير كان تاجراً للألبسة، وقد أعرب للإمام عن رغبته في ترك العمل بالسوق لاكتفائه المادي قائلاً: «قد هممت أن أدع السوق وفي يدي شيء». فقال له الإمام الصادق موبّخاً: «إذاً يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء»!.

الحديث هنا عن أهمية أن يجد الإنسان شيئاً يكرّس له كل اهتمامه، لدرجة أن يضحي من أجله عن طيب خاطر. ولا يسع المقام لذكر كثير من المشاهير والعظماء والمصلحين الذين استمروا يعيشون حياةً زاخرةً بالعطاء والإنتاج والحيوية بعد تخطّيهم التسعين.

وأختم بوقفة مع النصف الآخر من المجتمع (النساء)، فمع مغادرة الأبناء الأسرة بعد أن كبروا ليبدأوا حياتهم الأسرية الخاصة بهم، حينئذ تبدأ معاناة النساء بما يُعرف في علم اجتماع الأسرة المعاصر بظاهرة «العش الخالي». نعم! لقد أنجزت الأمهات رسالتهن بنجاحٍ، لكن... ماذا بعد؟ أليس هناك جدوى للحياة؟

أقول: لا نستطيع إيقاف الزمن ولا العودة به، بل علينا التمتع بالأنشطة التي نقوم بها. فتربية الأبناء نوعٌ من العبادة، ورعاية الآباء نوعٌ من العبادة، والقيام بالأعمال الهادفة نوعٌ من العبادة. ولعل تجديد الأهداف ورسم حلم ملهم قد يضفي على الحياة السحر ويبعث فيها نكهةً وجمالاً وطاقةً متجدّدة متدفقة كالنهر.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3528 - الجمعة 04 مايو 2012م الموافق 13 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً