يحتار الإنسان من الطرائق التي تتعامل بها الأمة العربية مع ما يجري من حولها. وفي كثير من الأحيان تمرُّ السُّنون الطويلة دون أن تحرٍّك الأمة ساكناً، بل تكتفي بالمشاهدة السلبية العاجزة للأحداث والمتغيّرات الكبرى التي تجري في العالم. وحتى عندما يكون هناك رد فعل تجاه ظاهرة أو أحداث ما، فإنها تبقى على حالها، دون تغيير أو تطوير، عبر أزمنة طويلة. ولعلّ أفصح مثل لجمود ردود الأفعال موقف الثقافة العربية الإسلامية من الثقافة الأوروبية، فمنذ الاحتكاك أو التفاعل فيما بين الثقافتين في بداية القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، ظلّ ردُّ الفعل عندنا يراوح بين الانبهار المفرط ومن ثمُّ القبول التام لثقافة الغرب، وبين الخوف المريض ومن ثمَّ الرفض التام لتلك الثقافة وتقوقعنا داخل ثقافة الماضي وخارج العصر والحداثة.
إن ما حدث بالنسبة لموضوع الثقافة هو جزء من مظاهر الثنائية في الحياة العربية، الثنائية التي تبقى دون حسم في الفكر ولا في الواقع. فثنائية العلم/الدين أو الأصالة/المعاصرة، أو التوحّد القومي/الاستقلال القطري الوطني، أو السنّة/الشيعة، أو غيرها من ثنائيات هي أبداً معنا كمواضع نقاش وصراعات وحروب أهلية لا تنتهي وإنّما تتجدّد بصور مفجعة وبليدة.
اليوم تعود حليمة إلى عادتها القديمة بالنسبة لظاهرة العولمة، وتنقسم الأمة إلى معسكري الرّفض التام لكل ما تأتي به هذه الظاهرة أو القبول التام لكل تجلّياتها وأهدافها. هنا نتصّرف وكأنه يمكن الاختيار بين الرّفض التام أو القبول التام لظاهرة معقَّدة، متشابكة المكوّنات، وفي سيرورة التغيّر الدائم الذي لم يصل بعد إلى نهايته. وهي ظاهرة عالمية شمولية تطال الاقتصاد والتجارة والمال في الأساس، ولكنّها تمتدُّ بصور وتأثيرات مختلفة إلى السياسة والثقافة والإعلام والعلم والتكنولوجيات والبيئة.
هل يمكن التعامل بمنطقية وفاعلية مع مكونات تلك الظاهرة؟ الجواب هو: نعم، وبدون عقد ولا خوف ولا تسليم الأمر إلى الآخرين. لكن الشرط الضروري المهم هو أن نتعامل مع كلّ مكوّن على حدة، وليس الدخول في معركة دونكشوتية عبثية مع الظاهرة ككل.
هنا يطرح السؤال الآتي نفسه: على أي مستوى يجب أن يتمَّ التعامل؟ تشير الدلائل أنه كلما كبر حجم وقوة ونفوذ الكتلة التي تواجه متطلبات العولمة كلما كان نصيب النجاح والفاعلية أكبر وأرسخ. وأية كتلة كبيرة ومؤثرة بالنسبة لنا كعرب غير الكتلة التي تندرج في الجامعة العربية؟ ليدرك الجميع بأن الاعتماد على المستوى الوطني القِطري لكل دولة عربية أو حتى على المستوى الإقليمي الجزئي كما هو الحال بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي إذا قام مستقبلاً، الاعتماد ذاك لن يكفي.
هناك حاجةٌ للمستوى القومي الذي سيجمع قوة ونفوذ المال البترولي مع الوزن السكاني عند البعض، مع حجم السوق العربية الكبيرة المنفتحة على بعضها البعض، مع القدرات الفكرية المنتشرة في الأرض العربية، مع أهمية الإستراتيجية الجغرافية، للوطن العربي الكبير الممتد، مع الكثير غيرها... يجمعها كلها للتعامل مع العولمة بندّية وتفاعل إيجابي.
والسؤال: هل تستطيع الجامعة العربية في وضعها القانوني والتنظيمي الحالي أن تقوم بهذه المهمَّة؟ الجواب بالطبع هو بالنفي، وإذن فلا مناص من إجراء إصلاحات تعديلية كبيرة لهياكل الجامعة ونشاطاتها وساحات عملها. وإذا كان البعض يعتقد بأن هذا الموضوع يمكن تأجيله أو السير فيه بخطوات بطيئة فإنه يرتكب خطأً سيضرُّ بالأمة. ذلك أن موضوع العولمة يزحف بسرعة هائلة وتزداد مشاكله يومياً، والأزمة المالية العولمية التي بدأت منذ أربع سنوات، ومازالت مع الجميع، هي مثال واحد على ما يمكن أن تؤدّي إليه عولمة بدون ضوابط.
ومنذ أسبوعين عندما كتبت عن ضرورة وجود أنظمة وقوانين حماية ودعم للصناعة العربية الوليدة، سواءً في الحقل الإنتاجي أو المعرفي، بيُّنت أن ذلك مرفوض من قبل الدول الرأسمالية المتقدّمة التي باسم العولمة تصرُّ من خلال منظمة التجارة العالمية على إلغاء كل أنواع الحماية والدعم. لكن ذلك الرفض يمكن التفاوض بشأنه وتعديله إذا تفاوضت بشأنه كتلة كبيرة كالكتلة العربية، خصوصاً إذا نسقت مع كتل أخرى، وهذا مثال ينطبق على جوانب أخرى عديدة من العولمة.
نحتاج أن ندرك بأن العولمة، التي بدأت تجارية منذ خمسمئة عام وتضخّمت، بصورة مرعبة إبّان العقدين الماضيين، ستكون باقية معنا لسنين طويلة. ولأنّها في سيرورة تغيُّر ونضج فإنها مرشّحةٌ لأن تفرز مفاجآت جديدة لا يستطيع أحد أن يتوقعها. ولذلك فإن العرب سيرتكبون حماقة إن هم لم يباشروا في بناء فكر وآليات ومنهجيات منطقية وعلمية على المستوى القومي لمواجهة الجوانب السلبية منها، ولامتصاص وتعريب وهضم الجوانب الإيجابية فيها. وسيكون من البلادة التعامل معها بمنطق الثنائيات الذي تعاملنا به بالنسبة لكثير من قضايانا.
مرّةً أخرى: لنتوقف عن الاعتماد على الجهد القِطري المحدود الإمكانيات والفاعلية ولنتوجّه إلى القومي الواعد والمليء بالإمكانيات والقدرات المبهرة. ومن أجل حدوث هذه النقلة سنعتمد في الأساس على أقطار وأنظمة ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي الناجحة وفي المقدمة مصر وتونس.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 3527 - الخميس 03 مايو 2012م الموافق 12 جمادى الآخرة 1433هـ