عانى الفلسطينيون أكثر مما يجب. معاناتهم لم تبدأ من العام 1948، وهو عام إعلان دولة «إسرائيل»، وإنما البداية كانت أبكَر من ذلك بكثير. يذكر التاريخ، أن ما بين العام 1937 والعام 1948 ارتكبت المنظمات الصهيونية المتطرفة الحاقدة، مئات المجازر بحق الفلسطينيين قبل قيام الكيان، كان أبرزها اثنين وأربعين مذبحة. سجَّل التاريخ كبراها. مجزرة القدس، ومجزرة حيفا، والنسيج، والعباسية، وعرب الخصاص، وبلد الشيخ، ويافا، والرملة، ويازور، وطبرة طولكرم، وسعسع، وقالونيا، وذهب ضحيتها الآلاف من الفلسطينيين المدنيين. هكذا كان تاريخهم، وهذه هي مأساتهم.
لم يعانِ الفلسطينيون من مسألة الاحتلال الإسرائيلي فقط، وإنما عانوا كثيرًا، عندما وجدوا أنفسهم ضيوفاً دائمين على دول عربية عدَّة. ضيافة، لم تكن لها مقتضيات الحياة المدنية البحتة، ولا التي تعيِّشَ أطفالهم لهْوًا يستحقونه، أو تلِجَ بشبابهم نحو مستقبل أرادوه، أو تعطي رجالهم ونساءهم حياة اجتماعية أسريَّة كأقرانهم، ولا لكهولهم فرصة الإحساس بما تبقى لهم من سنين عجاف، بل فرضت عليهم تلك الضيافة، لأن يكونوا في معادلة الإقليم والعالم. معادلة السياسة والحرب، والانحيازات، والتحالفات، التي دفَّعتهم الكثير.
أحَكَمُ نظرية وأعدل قول، لكي نحسّ بما جرى على الفلسطينيين، هو أن نستحضر ما قاله الداعية الإسلامي المعروف، جمال الدين الأفغاني: أقرب موارد العدل، القياس على النفس. إنها فعلاً نظرة عادلة. ليقِس كلّ منا ما جرى على الفلسطينيين، ويُسقطه على نفسه. ماذا لو جاء أحدٌ من الغرباء، وأخرجك من دارك، بما أنت عليه من ثياب فقط، ليرميك على تخوم أرضٍ هي غير أرضك، لم تزرها ولم تعرفها من قبل. تأبى كرامتك، أن يُأتى لك من مضارب أهلها بلحاف، وحَسَكٍ تجلس أو تنام عليه. أو أن يُطعِموك من زادهم، وأنتَ تعلم، أن المقام بك عندهم سيطول أكثر مما يجب، رغم درايتك، أنه لا ذنب لك فيما أنت عليه من وضع، وإنما شاءت موازين قوى هذا العالم الإمبريالي النزق، أن تكون صرف عملة بين جبابرته وفراعنته.
لقد ترك الفلسطينيون وراءهم كل شيء. حاجياتهم، ومُلكهم، ومواشيهم، والأكثر من ذلك، ذاكرتهم، وذاكرة عشرين جيل من الآباء والأجداد. في هجرة قسرية ظالمة، عبروا خلالها البراري والوديان، وأطفالهم على ظهورهم، تلفح وجوههم غَبَرَة الريح، وتلسعهم برودة الشتاء. قضى بعضهم في الطريق، فقُبَر على رصيفه بلا شاهِد أو صليب، واعتلَّت صحة صغارهم وشيوخهم، فلم يجدوا لهم من مُنجِد سوى التسكين، أو سقيهم لحاء الشجر، وما حفظته صدور العجائز من علاجات بدائية لا تنفع. واختار بعضهم أن يبيع «طرشه» بثمن بخس، لأناس لم يمنعهم من ممارسة ذئبيتهم في القنص، ما كان عليه ضحاياهم من حال.
وعندما نزل الفلسطينيون إلى بلدان عربية شتى، أصبحوا جزءًا من مقادير الطبخات السياسية، لأنظمة سياسية فاسدة، تبطن من الأحقاد ضد بعضها ما لا يحتمله جبل. وكلما هُزِمَ حزامٌ سياسي في معركة مع حِزام سياسي آخر، انهزمت معه مجاميع من الفلسطينيين، ممن أدخِلوا عنوة في هذا المسلك. الأدهى من ذلك، أنهم لم ينهزموا بهزيمة الآخرين فقط، وإنما قوتلوا واعتقلوا، وهُجِّروا على هجرتهم هجرة أخرى، وتم التآمر عليهم وكأنهم قوة طبيعية، عليها ما على الدول المتكاملة، دون أن يُدركوا أنهم يفعلون ذلك، بضيوفهم، الذين شرَّدتهم قوى الشر، في حين، كان الأولى بهم أن يكفوا عنهم ذلك كأضعف الإيمان، إن كانوا عربًا كما يدعون، ويتصفون بما اتصفت به قبائل العرب الأقدمين.
اليوم، يلوم الكثير من العرب الفلسطينيين على مواقف اتخذوها في قضية هنا أو هناك! اللوم، مصدره الصراع الإقليمي واستحقاقته. هؤلاء اللائمون، لا يدركون، أن اتخاذ القرارات، في بيئة قلقة، وغير متوازنة، ولا يوجد بها حيِّز جغرافي مستديم، لا تجعل البوصلة تعمل بشكل جيد. هذا هو حال الفلسطينيين. الجميع يطالبهم بمواقف تنسجم مع هذا الطرف أو ذاك، وهو مطلب دونه خرط القتاد، تتشابك فيه المصالح، وتتقاطع. هم بالكاد، ينظرون إلى يومهم كيف سيكون.
الغريب أن الجميع ينظر إلى مصالحه الوطنية والقومية. والجميع يردد، أنه ليست هناك عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، وإنما مصالح دائمة، لكن، عندما يأتي الأمر للفلسطينيين، تنكسر تلك النظرية ولا تنطبق، وتصبح محرَّمة عليهم، وكأنهم يأتون شيئاً إمْرا. هذا ليس عدلاً.
عندما تقرأ ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل عن المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ثم اتفاق أوسلو، تكتشف كم ارتكبت النظم العربية إثماً في هؤلاء. من حرب الـ 48 وعدوان 56 وحرب الـ 67 وحرب الاستنزاف، ثم حرب رمضان، وما تخللتها تلك الأحداث معارك جانبية دامية، داخل جيوب عربية أبرزها بالحرب الأهلية في لبنان، وصولاً إلى ما انتهى إليه أبو عمَّار يرحمه الله في أوسلو في العام 1993 وما يعانيه الغزيُّون من حصار، فضلاً عن المعتقلين والمطاردين. إنها حكاية لا تنتهي فعلاً رغم مضي أزيد من ستين عامًا من المأساة.
جماع القول، أن الموضوع يحتاج إلى شيء من الإنسانية العربية في أدناها، وتفهم ظروف الشعوب والكيانات. فالحسابات الرقمية، ليست دائمًا صالحة لتسيير الأمور. فالمنطق الصرف دمار للروح. كما قال الكاتب والطيار الفرنسي إنطوان دو سانت - إيكسوبيري.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3526 - الأربعاء 02 مايو 2012م الموافق 11 جمادى الآخرة 1433هـ