العدد 3524 - الإثنين 30 أبريل 2012م الموافق 09 جمادى الآخرة 1433هـ

استواء نفسية القضاة طريقنا نحو عدالة أوفى...

نفيسة دعبل comments [at] alwasatnews.com

محامية بحرينية

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب...)، لاشك أن الهوى والمزاجية إحدى أهم آفات النفس البشرية، ولاشك أن القضاة هم أكثر الناس الذين يلزمهم الشرع والقانون الابتعاد عن تلك الآفة، وذلك لمساسها الكبير بالعدالة وحقوق الناس وحرياتهم.

ونظراً لوجود تقابل عجيب وتوازن في التركيب والنظام بين الجسم والنفس، فيستحيل فصل الحالة النفسية عن الجسدية، وحيث إن اليقين القضائي الذي هو أساس الحكم في القضايا الجنائية ما هو إلا حالة نفسية وذهنية تثور بنفس القضاة بعد مطالعة أوراق الدعوى، وتسهم في تكوين عقيدتهم واطمئنانهم في القضايا ومن ثم إصدار الحكم، وعليه فهناك الكثير من الظروف التي تؤثر في نفسية بعض القضاة، وتلعب دوراً سلبياً كبيراً في إرساء قواعد العدالة، ومنها ما يلي:

• التقيد بالعادات الفكرية الراسخة في عمق النفس: وذلك كعدم استساغة شخص حسب مظهره أو معتقده أو أسلوبه، فقد يكون شاهداً يصيب الحقيقة في شهادته إلا أنه لا يكون مستساغاً أو مقبولاً بالنسبة للقاضي فلا يطمئن لأقواله، ويؤسس حكمه على ذلك، ويكون حكمه صحيحاً من الناحية القانونية وإن جافى الواقع والعدالة.

• وضع القاضي نفسه موضع المجني عليه أو المتهم: كأن يضع القاضي نفسه موضع «ضحية اغتصاب لأحد بناته أو سرقة لمنزله» ، فقد يكون للقاضي مثلاً بنات، فيتأثر بهذا الموضع واضعاً نفسه موضع أب تلك البنت المغتصبة أو صاحب البيت المسروق، فيقسو على المتهم في حكمه رغم أن المتهم لا يكون له علاقة مطلقاً بارتكاب الواقعة الإجرامية، إلا أن هول الجرم أو هول ما حصل للمجني عليها جعل القاضي يغض الطرف عن علاقة المتهم بالجريمة وهو الأهم في الإدانة.

• تأثر القاضي بتجربة شخصية: إلى حد يجعله ميّالاً إلى أن يقيس عليها الواقعة المطروحة عليه رغم التباين التام بين الواقعتين، كأن يكون ضحية لسرقة أو حرق منزله أو حادث مروري أدى لفقدان عزيز عليه، فتطرح عليه التهمة ذاتها، فيسارع إلى الإدانة القاسية للمتهم، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماماً لأي سبب كان، فيقسو على المتهم ويشدد عليه العقوبة لا لشيء إلا لتأثره بتلك الواقعة لحصول مماثلتها له.

• كراهية القاضي لفئة من الناس أو تعاطفه مع فئة منهم: كأن يتعاطف القاضي مع فئة من فئات المجتمع أو طائفة ما لأي سبب من الأسباب كحملها معتقداته نفسها أو بمنطقته نفسها مثلاً، فيبني القاضي حكمه على هذا الإحساس أو الشعور مجانباً الحقيقة والصواب.

• الغرور الشخصي: إذا امتلأ القاضي بغرور شخصي فإن ذلك يجعله يدّعي المعرفة حتى في مجال لا تخصص له فيه ولا معرفة، تغنيّاً بالمبدأ القائل بأن القاضي خبير الخبراء ووضعاً لهذا المبدأ في غير موضعه.

أو كأن يتعامل القاضي مع أوراق القضية أو مع محامي المتهم كخصم فيبحث عن مداخل للإدانة بدلاً من إيجاد مخارج للبراءة، فيقلب حديث الرسول (ص) «ادْرَءوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله. فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة»، والقاعدة القانونية القائلة بأن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

أو أن يتنبه لخطأ أو هفوة أثناء سير المحاكمة إلا أنه يكابر، ويسير مع ذلك الخطأ وإن تفاقم وحاد عن الصواب، فقط لكي لا يتراجع عن موقفه.

• التأثر بالصدفة الحرجة: كأن لا يتفطن القاضي إلى أن أحد ساكني إحدى المناطق اتهم بجريمة التجمهر، لوجوده بمسرح الجريمة بذات توقيت وقوع فعل التجمهر من البعض رغم عدم علاقته مطلقاً، وما كان تواجده إلا لأن منزله يقع بمقربة من المكان مثلاً، أو كأن يكون المتهم ذي فئة عمرية مقاربة لفئة مرتكبي الجرم فيكون للقاضي حجة في إدانته.

• الغضب وعدم الاتزان: كأن يؤثر على القاضي حدث عرضي خارجي لا علاقة له بالمتهم ولا القضية ولا جلسة المحاكمة، فتكون جلساته جميعها متوترة، وقراراته المتخذة بالجلسة غير مدروسة بل ومتعسفة، وتأجيلات النظر بقضاياه بعيدة وغير متماشية مع أبسط قواعد العدالة، وبالتالي فإن الضرر لا يكون بمواجهة المتهم فقط بل والعدالة ككل.

وغيرها من العوامل التي تؤثر بنفس ومزاج القاضي إذا ما افتقد للقدرة على الفصل والتجرد بين مزاجه وأهوائه أو حالته النفسية ككل وبين مهنيته وأدائه لواجباته، أي إذا ما افتقد للنضج النفسي.

ونستشهد بمعالجة الإمام علي (ع) لتلك المسألة في إحدى وصاياه، حيث قرر (ع) بأن صلاح القضاء صلاح الأمة، كما أكد على ضرورة اختيار أفضل الناس للقضاء، وهو الذي تجتمع فيه الصفات التالية: 1 - من يملك سعة الصدر فلا تضيق به الامور.

2 - من لا يثيره الخصوم.

3 - من يتراجع عند الخطأ فلا يتمادى في الزلة التي وقع فيها.

4 - من لا يتردد في الرجوع إلى الحق إذا عرفه.

5 - من لا تنازعه نفسه بطمع في حطام الدنيا.

6 - من يقلب وجوه الأمور حتى يعرف الصواب فلا يكتفي بالظواهر دون خلفياتها.

7 - من إذا صادف شبهة توقف عندها ولم يقتحمها من دون علم.

8 - من إذا توافرت لديه الحجة بادر بالأخذ بها من دون تردد.

9 - من لا يضجر بمراجعة الخصم حتى يتأكد من الحق.

10 - من هو صبور في البحث حتى تنكشف له الحقيقة.11

- من إذا عرف الحكم كان صارماً فيه.

12 - من لا يزهو بالإطراء (حتى يبحث عنه فيبتعد عن الحكم بالحق).

13- من لا يبحث عن مغنم فلا يستميله إغراء. وختم قوله بأن مثل أولئك قلة (فينبغي أن يبحث عنهم بلا ملل).

أما في فرنسا فقد سعت لوضع التدابير لحل تلك المشكلة واختيار قضاة لديهم القدرة على الفصل بين حالتهم النفسية وما بين أداء واجب ومهام القضاء، والتي هي جزء من مسار طويل من الإصلاحات التي اعتادت فرنسا القيام بها، حيث قُرر مؤخراً إخضاع المرشحين لمنصب القضاء لاختبار نفسي، ضم 200 سؤال عن شخصياتهم، واتباع ذلك بمقابلة للتعرف على خصائص النفسية للقاضي والنظر بعد ذلك في لجنة مختصة فيما إذا كان من الممكن قبوله ضمن سلك القضاة أو ضمن تخصص من تخصصاته، والهدف بوضوح هو إقصاء الأشخاص العنيفين أو المتصلبين أو غير المتوازنين والذين لمزاجهم أثر كبير في قراراتهم، كما يمكن للجنة المشرفة على التكوين أن تقوم بالتوصية على ضوء المسار الدراسي للمرشح.

كما ذهبت المغرب تماشياً مع التجربة الفرنسية وعلى يد الدكتور مصطفى فارس إلى اقتراح اختيار القضاة من بين قدماء كتاب الضبط والمحامين الذين لديهم خبرة عشر سنوات فما فوق، والذين تم خلالها اختبارهم وتتبع صلاحيتهم لمهنة القضاء، وهو اقتراح يتيح معرفة المسار المهني للشخص ومسلكياته طيلة عشر سنوات مرت على تخرجه، كما تؤهله لمعرفة مختلف مكونات العمل القضائي والاحتكاك المباشر معهم، فضلاً عن ذلك وهذا هو المهم، أن هذه الفترة كما يرى تعد كافية لاكتمال النضج النفسي والاجتماعي من جهة ومعرفة مستوى التزامه الأخلاقي الفعلي من جهة أخرى.

أما التشريع البحريني، فلم يتطرق لتعريض المرشحين لمنصب القضاء للاختبارات النفسية وحتى الاختبارات القانونية أو التدريب المتخصص، وقد أجاز المشرّع أن ينهي طالب الحقوق سنتي التدريب الإلزامية، ويتعين مباشرة في القضاء كما نصت على ذلك المادة 22 من قانون السلطة القضائية الصادر للعام 2002م «يشترط فيمن يولي القضاء في المحاكم: ‌أ- أن يكون بحرينياً، ويجوز تعيين من ينتمي بجنسيته إلى إحدى الدول العربية. ‌ب- أن يكون كامل الأهلية. ‌ج- أن يكون حاصلاً على درجة الليسانس أو البكالوريوس في القانون من جامعة معترف بها، أو إجازة في الشريعة الإسلامية تؤهله لتولي القضاء الشرعي. ‌د- أن يكون محمود السيرة حسن السمعة. هـ - ألا يكون قد سبق الحكم عليه جنائياً أو تأديبياً لأسـباب مخلة بالشرف أو الأمانة ولو كان قد رد إليه اعتباره. و- أن يكون قد أمضى بالاشتغال في الأعمال القانونية أو العلوم الشرعية مدداً لا تقل عن عشر سنوات للتعيين في وظائف قضاة محكمة الاستئناف العليا، وست سنوات للتعيين في وظائف قضاة المحكمة الكبرى، وسنتين للتعيين في وظائف قضاة المحاكم الصغرى...»، وعلى ذلك نأمل أن يعاد النظر في تلك المادة ووضع الشروط اللازمة التي تتناسب مع حجم تأثير هذا المنصب على حقوق وحريات الأفراد.

وأخيراً، أرى بأن البحث عن استواء نفسية القاضي ونزاهته وخلقه، ينبغي أن يكون عملية شرطية سابقة توضع ضمن الأسس التي لا يمكن التفريط فيها في عملية اختيار القضاة وتعيينهم - رغم صعوبتها الشديدة - وذلك من خلال تعريضه لاختبارات متنوعة على غرار التجربة الفرنسية السالفة الذكر، كما يجب أن تكون هناك فترة للتدريب والتأهيل والتجربة بجهة مختصة بذلك، كما يجب أن يكون سنه كافياً للنضج بمعنى أنه جمع بين العلم والخبرة الكافية لا مجرد العلم فقط، فالقضاء هو مرآة الدولة، وإذا ما صلح القضاء صلح المجتمع وما لا فلا.

إقرأ أيضا لـ "نفيسة دعبل"

العدد 3524 - الإثنين 30 أبريل 2012م الموافق 09 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً