لعلّ من أبرز أسباب تفجر بعض ثورات الربيع العربي - والتونسية منها بالذات - هو المطالبة الشعبية بالحقّ في العمل، حتّى أنّ من أهمّ الشعارات التي رفعها المحتجّون وإلى الآن يرفعونها: «الشغل استحقاق... أو شغل حرية كرامة وطنية». فقيمة العمل في العديد من المجتمعات وحقّ مزاولته كان ولايزال مُحرّكاً للشعوب. وهذا المطلب المقدس الذي تذود عنه الجماهير يعكس مدى وعي الشباب بأن العمل هو آية الحياة ودليل تحقيق الكيان وكأن لسان حالهم يردد «أنا أعمل إذن أنا موجود». فالعمل حق من حقوق الإنسان والإنسان دون عمل لا قيمة له اجتماعياً إذن فالعمل هو ما يعطي قيمة للإنسان.
لكنّ انحسار فرص العمل وتزايد نسب البطالة في العالم العربي بل وفي العالم بأسره بما فيها البلدان الأوروبية مثّل الظاهرة الأبرز في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وممّا فاقم من مشكلة تراجع فرص العمل تمادي قوى العولمة بشكل فائق السرعة في تحقيق فوائد لا تنفك تتعاظم لمن هم في دائرتها وهو ما يجعل قطار الرخاء يفوق معظم سكان العالم حيث إن الأرقام تعكس حقائق مهولة إذ إن معظم فوائد العولمة لا تصل إلى أكثر من نصف سكان العالم وزهاء ثلاثة مليارات شخص يعيشون على أقلّ من دولارين في اليوم ولايزال ملايين الأشخاص يعيشون بلا عمل.
ويبدو، بما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يلحق أضراراً بالغة ليس فقط بالبيئة الطبيعية وإنما طالت هذه الأضرار حقوق العمّال فضلاً عن كون هذا النظام لا يرقى في أحسن حالات تطبيقاته إلى تلبية احتياجات كلّ السكان سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي.
إن جولة سريعة توثق لحال العمّال في العالم وخاصة منه العالم الثالث - حيث التطبيقات السيئة للرأسمالية - تكشف عن الفجوة العميقة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون عليه الإنسان عند الحدّ الأدنى من المعاهدات الدولية وتوصيات تقارير برامج التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، ذلك أنه كثيراً ما وقع الخلط وسوء الفهم بشأن تحديد محور الاهتمام الراهن والأولويات الحارقة والملحّة: أيُحشَد الناس حول التنمية أم يتمّ نسج التنمية حول الناس؟ وتأتي الإجابة وفق تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية ليقرّ أنه: «ينبغي أن يكون الرجال والنساء والأطفال محور الاهتمام بحيث يتمّ نسج التنمية حول الناس» وتجد مصداق ذلك في إعلان جوهانسبرغ بشأن التنمية المستدامة، حيث شدّد هذا الإعلان على «إقامة مجتمع عالمي إنساني متضامن لمواجهة مجمل التحدّيات العالمية، مثل القضاء على الفقر، تغيير أنماط الإنتاج، وحماية قاعدة الموارد الطبيعية وإدارتها من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ردم الهوة العميقة التي تقسم البشر إلى أغنياء وفقراء...»، فتكون بذلك التنمية المستدامة هي الحلّ الذي بشّرت به نهاية القرن الماضي وتقترحه الألفية الجديدة بإلحاح نظراً لما تنطوي عليه من دلالات حقوقية وسياسية تشكل فلسفة قوامها الإنسان فالتنمية المستدامة كما جاء في تقرير اللجنة العالمية للتنمية والبيئة برونتلاند: «هي التنمية التي تلبّي احتياجات الحاضر من دون النيل من قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها» وبذلك تكون فرصة جديدة لنوعيّة النمو الاقتصادي وكيفيّة توزيع منافعه على طبقات المجتمع كافة، وليس مجرّد عمليّة توسّع اقتصادي» كما جاء في دراسة للباحث اللبناني إلياس أبوجودة.
إن المساعي الهادفة إلى إقامة نمط حياة مستدام حقًا يستوجب التكامل بين الإجراءات المتخذة على ثلاثة محاور تمثل عماد التنمية المستدامة:
أولها: النمو الاقتصادي والعدالة، وثانيها: حفظ الموارد الطبيعية والبيئية من أجل الأجيال القادمة وثالثها وهو ما يعنينا في هذا السياق بالخصوص: التنمية الاجتماعية، حيث إن جميع شعوب العالم بحاجة إلى العمل والغذاء والتعليم والطاقة والرعاية الصحية والماء. وعند العناية بهذه الاحتياجات، على المجتمع العالمي أن يكفل احترام حقوق العمال... فيكون بذلك احترام حقوق العمال فرعاً مهمّاً لإحدى أهم ركائز التنمية المستدامة ألا وهي التنمية الاجتماعية.
إنّ الاهتمام الدوليّ المتزايد نحو الحاجة إلى التنمية المستدامة يؤكد أن هذه العبارة لا تقتصر على التنمية الاقتصادية فحسب بل وتتعداها إلى المجال الاجتماعي والحقوقي حيث دعا رجل الاقتصاد الهندي والمفكر العالمي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، أمارتيا صن، في كتابه «التنمية حريّّة» المؤسسات الدوليّة والمجلس الاقتصادي الاجتماعي إلى اعتماد مؤشر جديد للتنمية، يأخذ في طياته حقوق الإنسان الاجتماعية والصحيّة والبيئيّة إضافةً إلى البعد الاقتصادي. وذلك من خلال القضاء على الفقر، تعزيز الديمقراطيّة، مكافحة المجاعات والأزمات والصراعات، التأكيد على فعالية المرأة، التغيير الاجتماعي، تشجيع الثقافة والدفاع عن حقوق الإنسان. وأيضًا من خلال تحسين سبل الحصول على الخدمات الاجتماعية والأغذية والرعاية الصحيّة الإنسانية والتعليم، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتمكين المرأة، وتسيير الحكم الرشيد، وتوسيع قدرة الحصول على تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والعقاقير لمكافـحة مرض الإيدز...».
إن تحقيق التنمية المستدامة المنشودة لن يكون إلا بإيلاء العمل المكانة الأكبر ومن ثَمَ إيلاء العمال ما يستحقونه من عناية واهتمام لأنه إذا اتفق العلماء والمفكرون في أن الحل للبشرية يتمثل في تحقيق تنمية مستدامة فإن هذا التنمية لن تتحقق إلا بفضل جهود العمال: عمّال الفكر والساعد على السواء.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3524 - الإثنين 30 أبريل 2012م الموافق 09 جمادى الآخرة 1433هـ
مشكور
شكرا أستاذ موضوع مهم ونرجو أن يتحصل العمال على كامل حقوقهم
نظام لمصلحة الأغنياء على الفقراء
ويبدو، بما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يلحق أضراراً بالغة ليس فقط بالبيئة الطبيعية وإنما طالت هذه الأضرار حقوق العمّال فضلاً عن كون هذا النظام لا يرقى في أحسن حالات تطبيقاته إلى تلبية احتياجات كلّ السكان سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي
أين دور الأمم المتحدة؟
إن جولة سريعة توثق لحال العمّال في العالم وخاصة منه العالم الثالث - حيث التطبيقات السيئة للرأسمالية - تكشف عن الفجوة العميقة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون عليه الإنسان عند الحدّ الأدنى من المعاهدات الدولية وتوصيات تقارير برامج التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة،
العمّال ذلك الكنز
الله يكون في عونهم جميعا
مازال عدد كبير منهم فب حاجة إلى أن يتحقق لهم أبسط حقوقهم وذلك لن يكون إلا بمزيد الحوار المشترك بين العمال وأصحاب العمل
عمّال الفكر والساعد
تحية كبيرة لعمالنا وتحية لك أستاذ على مقالاتك الحية
شكرا