ما يجري في إيران، تنبأنا به منذ شهور الرئيس أحمدي نجاد، لم يعد كما كان. هو اليوم، بلا أنياب. لقد تم ترويضه، والإمساك به وإدخاله إلى سَمْتِ النظام الذي يحكمه. الرجل، لم يبقَ عليه سوى، عام وشهران، لكي يُغادر مكتبه الرئاسي. خَلَدَ إلى السلطة، ثمانية أعوام، قضى ربعها الأول، غريمًا للإصلاحيين. ثم قضى ربعها الثاني غريمًا للمحافظين، ثم قضى ربعها الثالث غريمًا للنظام السياسي كلِّه، والآن يقضي ربعها الأخير، في ترميم ما عمِلته يداه مع الأغيار.
في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، نشرت وكالات الأنباء الإيرانية صورًا، لم يلتفت إليها أغلب المحللين. الصورة هي لاجتماع مَجمَع تشخيص مصلحة النظام. الاجتماع كان اعتياديًا في توقيته، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للمشاركين فيه. فقد ظهر الرئيس أحمدي نجاد كمشارك في الاجتماع، يجلس إلى جانب الكتف الأيمن لهاشمي رفسنجاني. وهي المشاركة الأولى له، منذ يونيو/ حزيران من العام 2009، وبالتحديد بعد الانتخابات الرئاسية.
لقد قاطع نجاد اجتماعات المَجْمَع، بعد أن أظهر الخصومة العلنية بينه وبين هاشمي رفسنجاني، واتهامه الأخير بالفساد، وبدعم مير حسن موسوي منافسه في الانتخابات الرئاسية. وكان ذلك الموقف منه، بمثابة الشطط، الذي جاوز الحد المتاح للجميع، ضد الجميع، فقرر النظام أن يزيله. اليوم، يعود نجاد (الرئيس) إلى مقعده في المجمع، مرؤوسًا من غريمه، الذي تعارك معه جهارًا في انتخابات العام 2005، ثم بشكل غير مباشر، في انتخابات رئاسة الجمهورية قبل عامين.
في القاطرة التي كان يجلس عليها أحمدي نجاد، بمجمع التشخيص، بدا أنه غريب وسط عددٍ من الخصوم الألِدَّاء. من الجهة اليسرى، هاشمي رفسنجاني، ثم علي لاريجاني، ثم محسن رضائي. الأول والثالث غرماء وجود بالنسبة له، والثالث غريم السياسة النووية. ومن الجهة اليمنى، محمود شاهرودي، ثم صادق لاريجاني، ثم ناطق نوري. الأول الثاني غرماء في الحكم، وفي خط اليمين، والثالث غريم في النفوذ، ومسائل الفساد، التي أشاعها في التلفزيون ضده علناً.
نرجع إلى مسألة الترويض السياسي. فهكذا تجري السياسة في إيران عادة. الجميع مُخيَّرون، لكن أولئك المخيَّرين، عليهم أن لا ينسَوا أنهم في نهاية الأمر، ضمن قالبٍ مُجبَر. يُمكنك أن تقول ما تشاء، لكن عليك أن تقول ما يجب على المصلحة والنظام أن يقوله. فَعَلَها خاتمي من قبل، ودخل في سجال، ومعركة، مع إرث الثورة الخام، لكنه، لم يستطع إلاَّ أن يقول قول النظام الذي هو فيه حاكمًا، في أول اختبار له في يوليو/ تموز من العام 1999 بعد أحداث الجامعة. ولم يخرج من السلطة، إلاَّ وهو بلباس الجميع، وبهتاف أنصاره ضده بالجامعة «خاتمي ارحل».
السلطة في إيران، أشبه ما تكون بسفينة ضخمة، تعوم على بحر لُجِّي، يحمي توازنها مجموعة مُدوَّرة من المقاعد، التي تسوِّر السفينة بكاملها، ويجلس عليها عدد من الأشخاص، المنتمين إلى بيوتات صناعية وتجارية، هي بالأصل من قامت بتمويل وصناعة هذه السفينة، مذ كانت على رصيف الميناء تنتظر الإبحار. كما أن كل تقنيات تسيير السفينة، مُوزعة على الجميع، وبمقادير مختلفة. وعند العبث بهذه المقاعد ومن عليها، ينقطع الاتصال ما بين الذي قبله وبعده، ويُفقد جزء من أسرارها، فالجميع مرتبط بالجميع، ولا يصل هذا بذاك، إلاَّ عبر نقطة اتصال وسطى. هذه هي مشكلة السلطة في إيران، وهو ما حاول نجاد أن يضربه وفشل.
بُنيَة السلطة في إيران، ليست كما يعتقد البعض. هي بالتعقيد الذي يجعلك تقرأها حتى النهاية، ثم تكتشف أنك قد بدأت بداية خاطئة. لماذا؟ لأن الصيغة السياسية المتبعة، هي ليست كالصِّيَغ السياسية المعهودة. فالثورة الإسلامية، التي انتصرت في الحادي عشر من فبراير من العام 1979 هي وبتعبير إريك هوبزباوم، الثورة الأخيرة، في سلسلة الثورات الكبرى، منذ العام 1776، والثورة الأولى التي لا يتصل فكرها بالإيديولوجيات العلمانية لعصر التنوير، خلال القرن الثامن عشر، وإنما هي تقوم على مجموعة صِيَغ دينية تتحد مع إرث قومي.
لم تتحدث الثورة في إيران عن مبدأ إقامة جمهورية ديمقراطية قائمة على سيادة الشعب (هي مرتكزة على السيادة الدينية للشعب)، والمرتكزة على مُحَدَّدين للمواطنة، سلطة القانون الملزِمَة للجميع، مع حمايتهم من غلواء أي سلطة خاصة شرعية، وحق المواطنين في المشاركة في تدبير الشئون العامة كحق سياسي، مثلما كان يشير غيوم سيبرتان. كما أنها ليست سلطة ملكية مطلقة، ولا سلطة ملكية دستورية، ولا هي طغيان مستنير. ولذلك، فكل ما تفرزه من ممارسات سياسية، يبدو غير مفهوم لمن يتابعها بشكل تقليدي.
هذا أصل الخلاف والاختلاف، وأسس التحليل السليم والخاطئ بشأنها. في كل الأحوال، إيران ستكون بلا أحمدي نجاد بعد عام وشهرين. بل أكثر من ذلك، فهي لن تكون بهذا النفس اليميني النجادي أصلاً. ما يظهر هو أنها سائرةٌ إلى زاوية سياسية جديدة، تتعامل بشكل مختلف مع الإقليم والعالم. وإذا ما تم الاتفاق بينها وبين الغرب، خلال جولة مايو البغدادية، بشأن ملفها النووي، فإننا نستطيع أن نقول، إنها البداية العملية لذلك التغيير. وربما من المفارقة، أن نجاد جاء إلى السلطة، والملف النووي مشتعلاً على يديه، أو قريبًا من ذلك، ويخرج من السلطة، وقد استوى الأمر فيه إلى هدوء، على الأقل مثلما يُقال في الإعلام هذه الأيام.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ
عزيزي محمد
مجرد رأي ان من المتابعين لتحليلاتك الممتازه ولكن بعض الاوقات اتحاشاها لولعك في اللغة العربية والكلمات التي تجعل التحليل الساسي تحليلا لغويا ؟ (ترويضه، والإمساك به وإدخاله إلى سَمْتِ النظام الذي يحكمه) الم تجد افضل من كلمة سمت النظام حتى تريح القلب يكفي انا نقرأ سياسة وبعد فيها شدات وفتحات وضمات ؟ محدثك مولع باللغة العربية ولكن افضل السهل الممتنع ؟؟؟؟
الكل يحاول تغيير آليات النظام من اجل مصلحته
آليات النظام المتبعة حالياً في ايران تمر عبر دهاليز عديدة ، بعضها يحتاج إلى تغيير جذري ، و لكن ما حاوله احمدي نجاد هو تغييره في صالحه و ليس في صالح المأسسة الدائمة التي تذهب في مصلحة الشعب ، لذلك كان ذلك جزئاً من فشله(حيث لم يجد له سنداً شعبياً في تحديه للأركان ) ، الجزء الآخر هو انه استعدى الجميع بسبب او بغير سبب ، و كان يستعمل بعض الأحيان اسلوباً قذراً في الفضائح وهو ما انتقص من ثقة الكثير به . في النهاية باختصار حاول احمدي نجاد ، فشل لأسباب بعضها صحيح و بعضها خاطئ ، و قاربت صفحته ان تنطوي.
شكرا لك
تحياتي لك و لغزارة تحليلاتك التي اتفق مع بعضها واختلف مع بعضها الأخر,لكنها تنم عن ثقافة واطلاع وحسن رؤية,وقبل ذلك القلم الصادق