تثير قضية الثورة في أي مجتمع ثلاث إشكاليات. الأولى مدى انطباق تعبير الثورة على الحدث ذاته، والثانية مدى ارتباط الحدث الذي يطلق عليه صانعوه إنه ثورة بماضي المجتمع الذي يتم فيه هذا الحدث وسوابقه التاريخية وخصائصه الذاتية والجيوستراتيجية، والثالثة مدى ارتباط الحدث بما يجري بالمنطقة أو الإقليم من احداث متشابهة.
الإشكالية الأولى تتعلق بالتكييف السياسي والقانوني للحدث هل يمكن أن يطلق عليه ثورة أم لا؟ وهل هو يمثل ثورة مجتمعية أو شبه ثورة أو حالة ثورة أو وضع ثورة أو أنه ثورة مضادة؟ أم ثورة قصر؟ أم انه انتفاضة أو محاولة تمرد ومحاولة انقلاب؟ كل هذه التساؤلات طرحت في المؤتمر السنوي للجمعية المصرية للدراسات التاريخية الذي عقد تحت عنوان «ثورة 25 يناير بين ماضي الثورات وحاضرها» واختلفت الآراء بشأن ما حدث يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، البعض رآها ثورة، و آخرون رأوها ثورة غير مكتملة، وفريق ثالث رآها حالة ثورة وهكذا.
الإشكالية الثانية تتعلق بمدى ارتباط الحدث - الثورة - بماضي المجتمع الذي حدثت فيه، ولقد تناول المؤتمر ثورات مصر عبر العصور منذ العصر الفرعوني والثورة المصرية بعد الأسرة السادسة، وما تلاها في عصر الانتقال الأول ثم الدولة الوسطى ثم عصر الانتقال الثاني، ثم الدولة الفرعونية الحديثة واستمر الامر في تتابع تاريخي حتى 25 يناير 2011، وطرح الباحثون ثلاث مقولات غير تقليدية.
المقولة الأولى ان شعب مصر لم يكن شعبا يقبل الذل والخضوع للفرعون عبر العصور، بل إن تاريخه مليء بالثورات في مختلف عصوره التاريخية بعضها نجح، وبعضها اخفق، كما أن الشكاوى المشهورة باسم شكوى الفلاح الفصيح ليست الأولى بل سبقتها شكاوى مماثلة من عامة الشعب، وإن الأدبيات المصرية القديمة مليئة بمثل هذه الشكاوى.
المقولة الثانية غير التقليدية أن الحكام الفراعنة لم يكونوا مستبدين كما صورتهم بعض الكتب التاريخية بل أعلوا مبدأ العدالة، ولذلك فإن مفهوم «ماعت» آلة الحق والعدالة، هو من أهم المفاهيم التي سادت في الحضارة المصرية القديمة، كما أن أسطورة ايزيس وأوزوريس تقوم على البحث عن العدل والمطالبة بالقصاص من الافتئات على حق الحياة وتعبر عن فلسفة العدل أيضا.
المقولة الثالثة: أن العلماء - رجال الدين – الذين نسب إليهم قيادة الثورات المصرية ضد الحملة الفرنسية لم يكونوا ثواراً حقيقيين يدافعون عن الشعب ويقاومون الاحتلال الأجنبي، بل إن معظمهم - كما ذهب لذلك احد الباحثين الذي طرح هذه المقولة – كانوا مهادنين للاحتلال الأجنبي، وكانوا طالبي مصالح دنيوية شخصية في السعي للحصول على مغانم وإظهار الولاء للفرنسيين المحتلين، بخلاف ما شاع عنهم وسرد الباحث عدة معلومات وأقوال للدلالة على وجهة نظره.
الإشكالية الثالثة: مدى ارتباط الحدث – ثورة 25 يناير في مصر - بالأحداث والتطورات في المنطقة العربية. وقد برزت هذه الإشكالية نتيجة تركيز برنامج المؤتمر على ثورات مصر عبر العصور، مع إشارات محدودة لتأثير الأوضاع في المنطقة العربية على الأحداث في مصر، بل أشار البعض بصورة عكسية إلى أن الآخرين تأثروا بأحداث مصر، وإن ثورة 25 يناير سبقت في إرهاصاتها ومقدماتها ثورة تونس التي نجحت في 14 يناير بعد مضي أكثر من شهر على اندلاعها. في حين أن مصر شهدت انتفاضات وحركات قبل 25 يناير مثل حركة كفاية، وإضرابات العمال في كفر الدوار، وفي القاهرة، وحركة 6 أبريل، وحركة 9 مارس والجبهة الوطنية للتغيير التي أطلقها محمد البرادعي وغيرها.
ولن نتناول بالتحليل الإشكاليات الثلاث السابقة ومناقشات المؤتمر، الذي استمر في جلسات مطولة من العاشرة صباحا حتى السابعة مساء على مدى 4 أيام، وذلك لضيق المساحة، ولكن نشير إلى مجموعة من ملاحظات 8 على هامش النقاش الذي دار في جلسات المؤتمر.
الملاحظة الأولى: إن المؤتمر ضم عشرات المؤرخين وأساتذة التاريخ من مختلف الجامعات المصرية، ومختلف فئات المجتمع وقواه السياسية، فكان هناك الإسلاميون والليبراليون والناصريون واليساريون والمرأة والرجل والشباب والشيوخ والدارسون للدكتوراه في التاريخ أي شباب العلماء وشيوخ العلماء. ولكن الغالبية كانت للفكر الليبرالي والناصري ولكبار الأساتذة، وهذا منطقي لأنه مؤتمر سنوي للجمعية التاريخية يضم علماء التاريخ وأساتذته، ولكنه مع ذلك لم يكن حكراً عليهم بل ضم الأجيال الحديثة، كما ضم عدداً من الخبراء والأساتذة في القانون والعلوم السياسية والفلسفة والإعلام، وهذا يعبر عن انفتاح الجمعية المصرية للدراسات التاريخية على العلوم الأخرى لترابط العلوم وتكاملها، والتأثير المتبادل بينها في المنهج العلمي والنتائج.
الملاحظة الثانية: إنه سيطر على منهج المؤتمر الفكر السياسي والتطورات السياسية المعاصرة أو الراهنة في مصر، وبرز ذلك في مداخلات وأبحاث المشاركين من حيث تأثر بعضهم بما يكتب في الصحف أو حتى الإشاعات والأقوال أي ان معظم المشاركين عبروا عما هو حادث في اللحظة الراهنة بأكثر من اعتمادهم على الوثائق التاريخية بالمعني الدقيق. ولعل ذلك مرجعه حداثة الموضوع وسخونته، ولهذا عبر البعض عن أن المؤتمر ساده البحث التاريخي المعاصر، والنظرة المستقبلية بأكثر مما ساده البحث بالمنهج التاريخي التقليدي وأن علم التاريخ المعاصر، هو تعبير عن التاريخ المعاش أو التاريخ الآني، وان المؤتمر من هذه الناحية يعتبر نقلة فكرية في عدم انحصار التاريخ في الماضي، والابتعاد عن واقع المجتمع وهموم الشعب.
وهذا لا ينفي كثرة الأبحاث عن الماضي، ولكن هنا أيضا نقل الباحثون دلالاتها على الحاضر، حيث وجدوا أوجها للتشابه بين حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك وأسرته ودورهم وتأثير رجال الأعمال على السلطة بل التزاوج غير المشروع بين الثروة والسلطة، كما حدث في عصور سابقة.
ولا ادري هل هذا يعني أن التاريخ يكرر نفسه؟ أم انه مجرد أوجه معينة للتشابه عندما تتشابه الظروف؟ ولكن المهم هنا كما ذكر أحد الباحثين هو غياب العملية التراكمية في المجتمع المصري، ولذلك أشار بعض المشاركين إلى ان تاريخ الثورات المصرية في معظمه يدل على أن تلك الثورات لم تكتمل ولم تحقق أهدافها، بما في ذلك ثورة 1952، وثورة 25 يناير 2011 وما سبق ذلك من ثورات، وان هذه هي احدى مشاكل أو إشكاليات الثورات المصرية ربما مقارنة بالعملية التراكمية التي حدثت في مجتمعات أخرى وأدت إلى تطورها ومن ثم تقدمها كما في التجارب الأوروبية وبعض التجارب الآسيوية.
الملاحظة الثالثة: هي تركيز معظم الباحثين على مصر وثورتها وتجاهل أي تأثير أو تفاعل مع المنطقة المحيطة بها، وربما هذا يرجع إلى اعتبارين رئيسيين الاعتبار الأول ان مصر هي أكبر دولة من حيث السكان والقوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية مقارنة بالدول المحيطة بها والتي اصطلح على تسميتها بالمنطقة العربية أو الشرق الأوسط أو غرب آسيا، ونود أن نشير هنا للبعد التاريخي الذي جعل تاريخ مصر مرتبطا بتلك المنطقة منذ عصر الفراعنة عبر الهجرات من الجزيرة العربية في جنوبها أو شمالها وخاصة أن التاريخ المصري السياسي والحضاري له ثلاثة اذرع الأول يمتد إلى افريقيا، والثاني إلى المنطقة الشرق أوسطية أو المنطقة العربية والذراع الثالث يمتد عبر البحر المتوسط. وفي الحالات الثلاث فإن مصر كانت محور التطور والحركة والقوة الدافعة للتغيير، على رغم انها لم تكن العاصمة الرئيسية للحضارة الإسلامية، حيث كانت دمشق في عصر الأمويين، وبغداد في عصر العباسيين، والمدينة المنورة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلى أن نقلها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب إلى الكوفة، بعبارة أخرى ان مصر كان لها ذاتية واستقلالية واضحة على رغم تبعيتها لمركز الخلافة في المدينة المنورة أو دمشق أو بغداد.
ولعل هذا يفسر التنافس الذي يتردد بين هذه العواصم الأربع في المنطقة العربية في العصر الحديث بين القاهرة والرياض ودمشق، وبغداد، وهو تنافس يمكن النظر إليه في إطار من التكامل، إذا أحسنا الظن، أو في إطار الصراع على الزعامة والقيادة، كما روج ذلك بعض المستشرقين والاستعماريين الأوروبيين بهدف بث الفرقة والاختلاف بين دول المنطقة ومن ثم إضعاف وحدتها الحضارية وبالتالي السياسية والثقافية.
أما الاعتبار الثاني فمرجعه المقولة التقليدية ذات الدلالة المعنوية للمؤرخ وعالم الاجتماع المشهور عبدالرحمن بن خلدون وهي «ان مصر أم الدنيا» وأثرت هذه المقولة في العقلية المصرية وفي اللاوعي الثقافي والسياسي عبر العصور ولاتزال، وهذا ربما يفسر تركيز المؤتمر على مصر وتراثها وحضارتها وإعطاء مساحة محدودة لأحداث المنطقة العربية، وكانت مساهمة الباحثين من بلاد الثورات العربية المعاصرة محدودة حيث اقتصرت فقط على تونس واليمن ومن تحدث عن فلسطين أو ثورة العراق ركز على ثورة عبدالغني الجميل زاده في بغداد عام 1832 وثورة ظفار من 1965 - 1975 والثورة السورية من 1925 - 1927 وثورة اليمن من 62 - 1968 وهكذا حرص المشاركون وهم مصريون على التركيز بالنسبة للمنطقة العربية على التاريخ وليس على الأحداث المعاصرة، وفي تقديري أن ذلك مرجعه العنف الذي حدث في مناطق ثورات الربيع العربي، والاختلاف على التوصيف الخاص، بها هل هي ثورات أم هي أحداث طائفية أم قبلية أم مذهبية؟ أو هي مجرد تمرد على الحكم في بعض تلك الدول وخاصة أن من قاموا بها لم يعلنوا ذلك منذ البداية ولم تكن لهم قيادة أو رؤية شاملة؟
وطرح تساؤل مهم هل كانت هذه التحركات تعبيرا عن أوضاع ثورية حقيقية أم هي مدفوعة من الخارج وتحت تأثير المؤامرات الاستعمارية الدولية أو الإقليمية لمزيد من بث الفرقة في المنطقة العربية؟ ولهذا اعترض كثير من المشاركين على أحد المؤرخين الذي تحدث عما اسماه «ثورات النوبيين في العهد المملوكي» على أساس أنها طرح لأفكار غير حقيقية وتعبير عن أجندة خارجية تسعى لتقسيم مصر لمزيد من إضعافها والحد من دورها الإقليمي والدولي.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ