العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ

الكاميرا ليست جارية أحد... هي بنت الحقيقة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الكاميرا: مصيبة... فضيحة بلاء... وباء... تعرية أصابت كثيراً من الأنظمة التي كانت تتعامل مع شعوبها ومعارضيها في الأقبية... في الطوامير... «ما وراء الشمس» تلك خلاصة ودرّة إنجاز أجهزة الأمن العربية خصوصاً والديكتاتورية عموماً.

الكاميرا «شيطان أكبر». الأكبر منه كاميرا هاتف جوّال ينقل الحدث بالصورة والأنين والدم وحتى الصمت الذي يلف مشاهد كتلك لأنه لا كلام بعدها.

كاميرا الهاتف التي حوّلت سائق أجرة وسائس مواقف سيارات إلى مراسل أول تتسابق على كسب رضاه مؤسسات صحافية عريقة. لا يقول حرفاً واحداً؛ حتى اسمه خارج المشهد ويجب أن يكون كذلك وإلا انقلب السحر على الساحر! الصورة يصمت أمامها الكلام. اللقطة/ الصورة في غنى عن كل ذلك.

الكاميرا التي تأخذنا إلى العاطفي والرهيف من الأوقات والمحبّب من الأمكنة يمكنها أيضاً أن تأخذ المتجاوزين إلى الجحيم وليس أي جحيم. إنه جحيم كشف الكاميرا لجنّات مصطنعة ومتوهمة ويُراد للناس أن يصدّقوها؛ وإن تعدّدت وظائف ودور الجحيم في المكان والزمان.

الكاميرا نفسها التي كانت تُهشّم على رأس صاحبها لأنها بارزة وواضحة كخيمة وإعلان صريح لنص فضيحة مقبلة، لم يُتحْ لكثيرين كشف التفاصيل في غابات من الأسوار وغابات من المخبرين والعسس وأطقم التزوير على الشاشات يطلعون عليك من غرفة نومك وعلى الهواء مباشرة.

لم تعد الكاميرا وحاملها يتسوّل تصريحاً في حدث احتفالي. باتت الكاميرا وحاملها تحتفل رصداً وترصداً للتجاوزات التي تصرّ وتصدّع رؤوسنا ليل نهار التزاماً بالقانون ولا شيء غير القانون. لم تعد الكاميرا بحاجة إلى أن تمرّ على دوائر من إذلال بيروقراطي كي يتم منحها ترخيص النظر بشكل عفوي وطبيعي، ومثل تلك الدوائر لا تؤمن بالعفوية والطبيعة أساساً كي تؤمن ببدْعة الكاميرا؛ وخصوصاً إذا كان حضورها تحطيماً لصنمية البراءة التي عمّرت وعشّشت في رؤوس مُستلبين. براءة سلطة تحكم الناس وتريد لهم أن يتجاوزوا كفرهم وجحودهم والنكران؛ لأنها ألقت في روعهم وتعاطيهم معها أنها لا يمكن أن تؤذي بعوضة!

لا تحتاج الكاميرا إلى ضمير مباشر. ضميرها الممسك بها. ضميرها رؤيته وحسه وقدرته على تراكم حساسيته أمام لحظات التجاوز والخلل والانتهاك. ضميرها ألاَّ يخشى على نفسه من موت وفير يكاد يؤثث المكان والوقت.

لم تعد الكاميرا بحاجة إلى إثبات ولاء ولا يمكن أن تُتهم بالخيانة والارتباط بجهات خارجية. الكاميرا تنقل روح الحدث ونصّه من دون أن تصطفّ مع طرف دون آخر. من دون أن تتأكد هي نفسها من الولاء لطائفتها والولاء لدمها ولونها.

لا ولاء منشغلة به الكاميرا غير ولائها لرصد الحدث ولحظته.

سيطل أحدهم مستغلاًّ هذا التوصيف، ممنيّاً نفسه ذكاء واكتشافاً بالقول: حامل الكاميرا عميل وطائفي وخائن حين يترك الكاميرا (عينه) من دون رادع ورقيب! المنطق ذاته لا يمسُّك فقط، إنه يمسُّ الأشياء التي أنت على ارتباط بها أو هي على ارتباط بك! سيصرخ الذي أطل عليك بتقرير أن المواطن الشريف لا يمكن أن يحيا من دون رعاية ورقابة!

ثم إن الكاميرا التي تنتظر ترخيصاً من أحد وخصوصاً بالإمكانات التي تملكها في الفضاءات المفتوحة أو شبه المفتوحة، في الشارع ودورات المياه والمجمّعات التجارية والمؤسسات الرسمية. إنها تحصي أنفاس الخلل والفساد والتجاوز والإهانات وحتى الجميل من المواقف من دون الحاجة إلى تصريح أو سجلّ تجاري. إنها ابنة اللحظة وصانعة الحقائق. إنها ابنة الحساسية والموقف والمشهد الذي من السخف أن يقبل تأويلاً أو تأجيلاً.

الكاميرا لا تتلقى مكافآت بحسب توظيف ما التقطتْ. ليست موعودة بتكريم في حال الفضح وكسر الأسوار. الكاميرا موعودة بتهشيمها على رأس من قادها إلى تلك المساحات والأسوار المحرّمة وإن لم تتضح مساحات أو أسوار. لا يعنيها أن يهتز ضمير لما رأت وكشفت وعرّت وفضحت؛ أو أن يراه محض عبث وإضاعة وقت. لا يهمها كل ذلك.

الكاميرا ليست مرآة في غرفة النوم أو ممر ما قبل مغادرة أحدهم بيته؛ يوظفها لخداع ملامحه ومزاجه وسهره على الشكل. الكاميرا تتجاوز ذلك بقدرتها على خلخلة مفاصل العالم حين يذهب في خدره؛ وقادرة على إعادة الاعتبار إلى الغياب والتغييب والتعمية والتورية واقتحام الأبواب الموصدة وما بعدها.

في نهاية المطاف، تحتاج إلى ما يجعل لتلك الكاميرا قيمتها وجدواها وأثرها وحضورها ومعناها: ضمير هو الذي يأخذ بها إلى تسجيل ورصد ما يحدث من دون أن يطرف لك جفن تمييز وانتقاء. ضميرك هو الكاميرا التي ترصد كاميرا في يدك!

بات للكاميرا سلطة أخرى، سلطة أن ترصد الانحراف والتجاوز الذي أصبح عاديّاً مثل القتل اليومي؛ قتل مؤسساته وتشريعاته في الباطن وخبرائه؛ وحتى منابره الدينية التي تسوّغ وتشرعن من عندياتها كل ذلك. للكاميرا كلمة الفصل في كل هذه الوقاحة والخلاعة.

في أول الكلام ولا آخر له:

الكاميرا ليست جارية أحد...هي بنت الحقيقة!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:21 ص

      هذا ما قلناه وكررناه مرارا وتكرارا

      يا جماعة ترى الزمن تغير وما كان ينفع في السابق لا ينفع الآن. اي نوع من التعامل يجب ان يكون مدروسا
      وخاصة فيما يتعلق بحقوق الناس والبشر يجب تغيير اسلوب المعاملة ولكن البعض لا زال بالعقلية الرجعية التي تتصرف وكأنها في عالم لوحدها.
      وهذا التطور سوف يقود الى تقدم كل الشعوب ورقائها ونمائها وعدم قبولها بما كان مقبول سابقا
      يجب التعامل مع الناس باحترام تام وفق الضوابط الحقوقية المتعارف عليها دوليا. وإلا فإن البعض يجني على نفسه ولا تقولون الناس تشهر فيكم

    • زائر 2 | 1:46 ص

      سلمت

      مقال أكثر من رائع، يكفي أن أقول لك بين فقرة وأخرى أرفع رأسي أطلب ممن حولي قراءة مقالك.

    • زائر 1 | 1:20 ص

      خير وصف

      وصفت المكاميرا خير وصف صراحة

      قواك الله

      الكاميرا أفضل من العربية وأفضل من الجزيرة وأفضل من العالم

      كل ما تحتاجه اليوم كاميراً + حساب يوتيوب

اقرأ ايضاً