قدُم هشام بن عبد الملك إلى الحج برفقة حاشيته ومعهم الشاعر العربي الفرزدق، وكان البيت الحرام في تلك السنة مكتظاً بالحجيج ولم يفسح له المجال للطواف فجلب له متكأً ينتظر دوره، وعندما قدم الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن أبي طالب (رضي الله عنهما) انشقت له صفوف الناس حتى أدرك الحجر الأسود، فثارت حفيظة هشام وأغاظه ما فعله الحجيج للإمام، فسأله عنه أحد مرافقيه فقال هشام: لا أعرفه! عندها تصدى له الشاعر العربي الفرزدق قائلاً:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كُـلهـمُ
هذا التقي النقي الطاهرُ العلمُ
وليس قولك: منْ هذا؟ بضائره
العرْب تعرف من أنكرت والعجمُ
إلى أن يذكر الفرزدق صفة مهمة للإمام زين العابدين- الذي انشقت له الصفوف- وهو معرض حديثنا في هذه السطور:
يُغضي حياءً، ويُغضى من مهابته
فما يكلّم إلا حين يبتسمُ
ذكر الثعالبي في كتابه فقه اللغة أن التبسم أول مراتب الضحك، وفي صفة الرسول الأعظم (ص) أنه كان جلّ ضحكه التبسم. وفي لسان العرب إن التبسم: هو أقل الضحك وأحسنه. وقال الزجّاج: التبسم أكثر ضحك الأنبياء (ع). وقال الليث: بسم يبسم بسماً وامرأة بسامة ورجل بسام. وجاء في القرآن قوله تعالى: «فتبسَّم ضاحكاً من قولها»، في قصة نبي الله سليمان مع النملة «حتى إذا أَتوْا على وادي النملِ قالت نملةٌ يا أيها النَّملُ ادخُلُوا مساكنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُم سليمانُ وجُنودُهُ وهم لا يشعُرونَ* فَتَبَسَّمَ ضاحكًا من قولِها وقال ربِّ أَوْزِعني أَنْ أَشْكُرَ نعمتَكَ...» (النمل: 18 - 19).
والدرس السلوكي المستفاد من هذه الآيات أن تبسم سيدنا سليمان وهو حاكم، هو بمثابة تبسم الكبير للضعيف، والتبسم الذي لا يخيف الآخر ولا ينوي أذاه، وهو بمثابة تبسم الحاكم العادل للمواطن وهو أيضاً بمثابة تبسم القائد الإداري للمرؤوس، ذلك التبسم الذي يعكس أن القائد الإداري مستقر نفسيّاً متزن ومتقبل للنقد بروح شفافة ورياضية. كما تتضمن ابتسامة سيدنا سليمان إعجابه بهذا المخلوق الصغير والضعيف وهو يدافع عن مملكته، منادياً بقية النمل «ادخلوا مساكنكم». والقصة تقدّم مثلاً لنملة إيجابية (أنثى) شجاعة كان من الممكن أن تهرب وحدها وتدخل جحرها، لكنها أول نملةٍ رأت الجيش قبل غيرها من النمل فخشيت على قومها. لم تعش لنفسها، وشجاعتها جعلت من الممكن أن تموت تحت الأقدام وهي تنادي على النمل لكنها تضحي من أجل حياة الآخرين.
هذا الموقف من النملة أدى إلى إنقاذ مملكة النمل من الدمار، فيا لجمال الله يسمي السورة بالنمل! وتبسم نبي الله سليمان (ع) لكلام النملة يوحي أيضاً بالإقرار بأحقية المواطنين للمطالبة بحقوقهم، وأن للمظلوم الحق في الدفاع عن نفسه، وتبسّمه يدل على أن الرعية في مأمن عندما تبدي رأيها وخصوصاً وأنه يتم ضمن الحراك السلمي.
واليوم تتم على الصعيد العالمي مراجعة علمية عن دور وأهمية الابتسامة وطلاقة الوجه، وأثرها على العلاقات الإنسانية وعلى منظمات العمل، وكأن التوجه المعاصر يختزن تراث دعوة الأنبياء والفلاسفة والأدباء. يقول الرسول الأعظم (ص): «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». ويقول: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق». ويقول سيد البلغاء الإمام علي (ع): «البشاشة حبالة المودة»، ويقول جون لوك: «الوجه البشوش شمس ثانية». ويقول لابرويير: «ليكن وجهك بساماً وكلامك ليناً؛ تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة». ويقول جون ميلتون: «بشاشة الوجه تجود من سخاء الكف».
وفي كتابه الرائع «فيض الخاطر»، يقول أحمد أمين: «ليس المبتسمون للحياة أسعد حالاً لأنفسهم فقط بل هم كذلك أقدر على العمل وأكثر احتمالاً للمسئولية وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم وتنفع الناس، ولو خيّرت بين مال كثير أو منصب خطير وبين نفس راضية باسمة لاخترت الثانية، فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس!».
ولعل رئيسة الفلبين غلوريا أرويو قد طالعت كتاب أحمد أمين حين لاحظت افتقار موظفي المطار إلى «الابتسامات الودية» و»الوجوه المبتسمة»، وذلك في المطار الدولي في العاصمة الفلبينية (مانيلا)، حيث أعربت (أرويو) عن استيائها من الوجوه العابسة التي لاحظتها على موظفي المطار أثناء انتظارها في قاعة كبار الزوار، فأصدرت أوامرها للموظفين برسم المزيد من الابتسامات على وجوههم. وجاء في المذكرة أنه يجب على الموظفين إظهار سمات الفلبينيين الذين يتميزون «بالبهجة واللطف والمساعدة».
وجاء في المذكرة أيضاً أن «الفلبينيين يُعرفون بحسن الضيافة واللطف والعمل الدؤوب والبهجة، وهم يفخرون بعملهم ومستعدون لمساعدة الآخرين المحتاجين ويتّسمون دائماً بابتساماتهم الودية الدافئة ووجوههم المبتسمة».
ويبقى البوح للمسئولين والوزراء العرب الذين لا يبدون اكتراثاً بهموم المواطنين في المنافذ والحدود البرية والمطارات، أن هناك أشياء صغيرة وبسيطة؛ لكنها عظيمة في قيمتها تميز سمات الأفراد وتبرز ملامح الشعوب، فليس كل ما هو صغير يعني عدم الأهمية! ولنا في قصة موت نبي الله سليمان (ع) عبرةً، فلم يخطر في بال الجن والعفاريت أنه مات، والذي لفت نظرهم إلى موته حشرة صغيرة لم ينتبه لها أحد، فقد أكلت عصاه التي كان يتكئ عليها فانكشف سر موته! وعلينا ألا ننسى أيضاً وسط زحام العصر أن الابتسامة كلمة طيبة من دون حروف.
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3521 - الجمعة 27 أبريل 2012م الموافق 06 جمادى الآخرة 1433هـ
الابتسامة كلمة دون حروف
فعلا الابتسامة هي عنوان الحياة لك التوفيق يامن أرحت القارئ. بهذا المقال الجميل الذي يعطي سلوكا للبشر وفقك الله