بديهي القول إن التحولات الاجتماعية الكبرى لا تنبثق من فراغ، بل هي نتاج تراكم وتفاعل، يشق طريقه بقوة في المجتمعات التي يستهدفها التغيير. وفي أغلب الأحوال، يسبق لحظة التحول صخب وغليان وتحولات فكرية وفلسفية، وبروز مناهج سياسية مغايرة، تمثل مرحلة التبشير بالتحول المرتقب. وتلك من المسلمات التي طبعت الثورات والتحولات الكبرى التي شهدها التاريخ الإنساني المعاصر. وفي هذا السياق، تبرز الثورات الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية، كأمثلة حية لتأكيد هذا الطرح.
وإذا كان ذلك، هو حال التحولات الإنسانية الكبرى، فلماذا إذاً لم ينسحب ذلك على التحولات السياسية التي شهدها عدد من البلدان العربية، منذ مطلع العام الماضي؟ وهل شرط التحولات الإنسانية الكبرى في التاريخ، وجود أفكار وهياكل حاضنة لها؟ أم أن الأمثلة التي ذكرناها هي مجرد عينات محدودة، وجدت في ظروف تاريخية مغايرة، وكان من حسن طالعها، أن وجدت أفكاراً ومؤسسات تتقدم الصفوف، وتقود لحظة التغيير، لتكون التحولات في نهاية المطاف معبرة بصدق عن المضامين الفكرية والسياسية لمرحلة التبشير.
إن المقاربة بين ما هو مألوف في الثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني المعاصر، وما جرى من تغيرات دراماتيكية بالوطن العربي منذ مطلع العام الماضي، تؤكد من جهة، حضور الحاضن الفكري والسياسي في الثورات الكبرى. فقد مرت بلدان أوروبا التي شهدت الثورات الاجتماعية، بمرحلة تبشير وإعداد، وبرامج سياسية، ألقت بظلالها الكثيفة على مختلف الأنشطة الفلسفية والفكرية والأدبية، وجميع أنواع الفنون، بما في ذلك الرواية والشعر والموسيقى. ولم تكن مرحلة الرومانسية أو السريالية في الأدب الأوروبي، أو الواقعية، ومسرح اللامعقول والفن التجريدي والواقعية الجديدة، سوى إرهاصات ومؤشرات على أن أوروبا قادمة على تحولات كبرى، تنقل مجتمعاتها من النظام البطركي إلى القوانين الوضعية والعلاقات التعاقدية.
ومن جهة أخرى، تؤكد هذه المقاربة، غياب مرحلة التبشير، بكل تجلياتها في التحولات التي شهدتها البلدان العربية، والتي عرفت مجازاً بـ «الربيع العربي».
صحيح أن الحراك الشعبي العربي جعل أمتنا على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة وخاصة أن هذا الحراك أدى إلى تنحي رؤوس السلطة أو الانقلاب عليهم وإزاحتهم، في تونس ومصر وليبيا واليمن، بعد أن جثمت هذه الأنظمة على صدور شعوبها، لأكثر من سبعة عقود، هي عمر الدولة الوطنية العربية، في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الهيمنة الكولونيالية. لقد أحدث الحراك الشعبي العربي تحولات سياسية مهمة في البلدان التي أشرنا إليها. ولاتزال تفاعلات هذا الحراك مستمرة وبقوة، حتى يومنا هذا في بلدان عربية أخرى. لكن محصلة ذلك، هي تولي عناصر ناكسة مسئولية القيادة في معظم تلك البلدان بالمرحلة الجديدة، ليغيب مع غياب البرامج السياسية والفكرية لهذا الحراك، الطابع الحداثوي في هذه التحولات.
كيف نقرأ هذا الخواء؟ وبماذا نفسر الغياب شبه المطلق للبرامج السياسية والاجتماعية في هذه التحولات؟ وهل كان ذلك صدفة وجزءاً من مكر التاريخ؟ أم أنه النتيجة المحتمة لغياب التراكم، وغياب الحواضن الفكرية والسياسية التي يفترض فيها أن تخلق التفاعل الخلاق، وتبرز من خلالها طريحة المستقبل.
هنا تواجهنا حقيقة مرة، هي أن الأفكار كما أشرنا لا تنتج من فراغ، بل هي في المبتدأ والخبر استجابة لواقع موضوعي، يمنحها المشروعية وصفة التقدم. وللأسف فإن الأمة مرت بمرحلة تنوير منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وكانت المعضلة أن عصر التنوير كان صدى واهناً لتحولات دراماتيكية في المجتمعات الأوروبية. نقلنا عنها أفكار الحرية والعدل والإخاء والمساواة، وعبّر عنها بصدق الشيخ محمد عبده حين زار باريس بقوله: «وجدت في مصر مسلمين ولم أجد إسلاماً، أما في باريس فإنني للأسف وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين». وهو في ذلك يعبر عن المبادئ الجوهرية لرسالة الإسلام الخالدة.
أفكار التنوير الأوروبية لم تجر تبيِّئتها وتوطينها في الواقع العربي، وكان غياب ذلك هو الوجه الآخر لضعف الهياكل الاجتماعية العربية، وانهيار الطبقة الرأسمالية المحلية، وغياب الطبقة المتوسطة بفعل الصعود الكاسح للاقتصاد الامبريالي، وقدرته على تدمير الصناعات الحرفية في حوض المتوسط بسبب توافد المنتجات الأوروبية رخيصة السعر للأسواق المحلية، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تدمير عدد من الموانئ العربية، التي كان لها دور في رفد اقتصادات مصر وبلاد الشام. فكانت النتيجة نكسات متتالية مروعة شهدتها مراكز النهضة، وعبر عنها بوضوح فشل ثورة 1919 في مصر، وثورة العشرين في العراق، وثورة 1936 في فلسطين، واتساع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واستمرار هيمنة الاستعمار الغربي على عدد من البلدان العربية، وزرع الكيان الصهيوني، منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي في القلب من الأرض العربية.
لم يبق في الساحة من بإمكانه قيادة العمل الوطني في مراكز النهضة سوى بقايا العالم التجاري والفئات الريفية والوجاهات، وقد تصرفت جميعاً، رغم تبنيها في العلن للأفكار الأوروبية، كوريث للثقافة التقليدية المحلية وليس كحامل للواء التنوير. لتعيش حالة انفصام مركبة. فهي لم تتمكن من القطع مع الماضي، ولم تعلن موقفاً واضحاً ومحدداً تجاه ثقافة المستقبل.
وقفت مشاريع التنوير موقفاً ضبابياً ومرتبكاً من مسألة الدولة المدنية وتداول السلطة والفصل بين السلطات. كما وقعت أسيرة لحظة في التاريخ، فجاء خطابها عاطفياً ومشحوناً بتوتراتها وتجاذباتها. وكنتيجة طبيعية لذلك، التزمت حركة التنوير العربي بموقف سلبي من الدولة الوطنية، ولم تقدم جواباً شافياً لرؤيتها لمفهوم الأمة. تأثرت بالتنظير الأوروبي في مسألة الأمة، لكنها حين التزمت بها وطرحتها كسبيل للخروج من مأزق التخلف الراهن، اقتصرت معظم أدبياتها على عنصر واحد هو اللغة، وغاب الحديث عن الجغرافيا والمواطنة والدولة المدنية. وحين جرى الحديث عن التاريخ والثقافة المشتركة كعناصر أخرى من مكونات الأمة، كانت الإحالة واضحة إلى الناطقين بالعربية فقط، وليس للناس الذين يقيمون على جغرافيا تمتد من البحر في الخليج العربي، إلى البحر المغاربي على ساحل المحيط.
خلاصة القول، إن ضعف الهياكل الاجتماعية، وعدم وجود الحواضن الفكرية والسياسية للتحول الاجتماعي، وانشغال التنويريين العرب بتجاذبات اللحظة غيبت جميعاً التراكم الفكري التاريخي، الذي هو شرط أي تحول سياسي حقيقي. وحين جاء الربيع العربي بعد هذه العقود الطويلة، لم يجد أرضية فكرية تحتويه وتقوده. ويبقى الحديث بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3520 - الخميس 26 أبريل 2012م الموافق 05 جمادى الآخرة 1433هـ