كم هو عجيب فعلاً، أن نرى صورة فوتوغرافية تفاعلية أو حيَّة، وهي تهزِم جيشاً لا قِبَل له. يكفي أن يلتقط شخص ما صورة لانتهاك إنساني، من قتل أو تعذيب أو إهانة أو تحقير للأغيار السياسيين أو الدينيين أو العرقيين، لكي تقوم الدنيا ولا تقعد، ضد من قام بذلك الفعل، تاركة إيَّاه، مخبولاً لا يلوي على شيء، يبحث عن أعذار ومُسوِّغات لفعله، لكي لا يقال عنه إنه مُنتهِكٌ للقانون الدولي، فيخضع هو ونظامه السياسي للمحاسبة القضائية، والأخلاقية، فيخسر بذلك سمعته، وسمعة بلده، ونظامه الاقتصادي، والسياحي والمالي.
ماذا فعلت الصورة بسَجَّانِي أبي غريب في العراق. وماذا فعَلَت بحارقِي القرآن الكريم في أفغانستان من الأميركيين. وماذا فعلت، بأحداث الربيع العربي، الذي غَمَرَ البلاد بتداعياته، منذ ديسمبر/ كانون الأول من العام 2010 عندما أقدم التونسي محمد البوعزيزي على حرق نفسه، ولغاية الساعة. لقد كانت الصورة، أحد مفاعيل تلك الثورات بحق. ولو لم تكن تلك الصورة حاضرة لما كانت أحوال هذه الشعوب والدول، بالكيفية التي نراها اليوم. أكثر من ذلك، فلولاها لاحتاجت تلك الانتفاضات والثورات لدماء وتضحيات أزيد، لكي تغيِّر واقعاً وتثبِت وجودها.
هذا أمرٌ بات معروفاً للقاصي والداني. لكن (وفي الـ لكن أهم القول) كيف لنا أن نتصور العالم بلا صورة؟ أو بالأحرى، كيف يُمكننا أن نتخيَّل، عَيْشَ الأقدمين ردحاً من السنين من دونها؟! أو بشكل أدق أيضاً، كم من الانتهاكات للحقوق، والتعديات، والقتل، والتنكيل، والتعذيب، والتهجير، والسطو، الذي حلَّ بالبشر، الذي لم يُسجِّله التاريخ حياً مرئياً مُصوَّراً، فضاع بذلك، جزء أصيل من الحقيقة، ومن الصدقية، التي غيَّبتها في أحيان كثيرة، خرمشات التزوير، الذي قام به المنكِّلون في التدوينات والأسفار، وحتى على الألسُن، لكي لا تبقى أسماؤهم سوداء كريهة، فيلعنهم التاريخ، كما لعن أقرانهم، منذ أن عرفت البشرية التعدي على الحرمات؟
وإذا ما أرجعنا ظهور الصورة إلى ابتكار العالِم الألماني الكبير، أتاناسيوس كيرشير لتقنية الغرفة السوداء القابلة للحمل، في العام 1640، والتي كانت مصنوعة من الخشب وجدران قماشية، فهذا يعني، أن أحداث ألفٍ وستمئة وأربعين سنة من عمر البشريَّة التقويمي قد ضاعت من دون تدوين صُوَرِي. أما إذا قدرنا ظهورها بتطوير العالِم الايرلندي روبيرت بويل للكاميرا البدائية في العام 1660 أو للعالم الألماني جوهان تزان في العام 1685 أو حتى بابتكارات المبدع التقني لويس داجير في العام 1820 لشكل الصورة ومداها ونوعيتها فإن الخسارة ستكون أكبر، بإضافة 180 سنة أخرى، مع الأخذ في الاعتبار، ارتباط انتشارها المتصاعد بتطوُّر وعائها الميكانيكي، من غرفة بحجم ثلاثة أمتار مثلاً، إلى شكل محمول، لا يزيد حجمها على ثلاثين سنتيمتراً.
ربما لم يستطع الأوروبيون أن يوثقوا الشيء الكثير عن ثوراتهم منذ العام 1789، ولا عن كامل أربعة وسبعين حرباً حصلت ما بين العام 1816 والعام 1965 إلاَّ أنهم وثقوا وقائع أهم حروبها وهما الحربان العالميتان الأولى والثانية، اللتان تعتبران بمثابة الجزء المأساوي المهم في التاريخ الإنساني بكامله، والذي بسببهما تبدَّل العالم كله رأساً على عقب. لكن الأسف كل الأسف، هو وصول تقنية الصورة وثقافتها إلينا بعد قرون من ابتكارها، الأمر الذي أدى إلى ضياع حقبة مهمة من التاريخ العربي والإسلامي، وبذلك، ضاعت وقائع عربية مهمة، كانت إحدى المآسي الجِسَام التي حلَّت على البشرية.
لقد ضاعت الانتهاكات التي حصلت للمسلمين في الأندلس بعد سقوطها، وما جرى لهم داخل غرف التعذيب المظلمة. وضاعت صور مصائب الشعوب الشرقية إبَّان الحروب الصليبية، فلم يُصوَّر لنا ما فعله جودفري، وسنجيل وبوهيموند كونت ودوق النورماندييين من جرائم دامية، وكم سقط من العرب، لكي تقام دويلاتهم الأربع. كما ضاعت علينا صور المآسي التي حلَّت على المسلمين على يد زعاماتهم السياسية. لقد وصلت تلك الآلام وفق ما ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ (الإسلامي)، من أن قائداً من الخوارج، يُدعَى محمد بن عبادة، أسِرَ في أيام المعتضد بالله، فسُلِخ جلده كما تسلخ الشاة، وأن أحمد بن عبدالملك بن عطاش، سُلِخَ جلده، ثم حُشِيَ تبناً، أو صور ما استخدمه الزيات وزير الواثق من مساهرة ضحاياه، وإضجاعهم على المسامير، وإمكاثهم في التنور كما ذكر ذلك الطبري.
لم تستطع الصورة أن تسجل لنا مشاهد دامية، لجثة المغيرة بن سعيد العجلي حين أحرِقَ حياً بأمر من خالد القسري حاكم العراق حينها. وقيام المعتضد بشَيِّ محمد بن الحسن؛ أحد قادة الزنج على نار هادئة كما ذكر الطبري أيضاً. ولم تستطع الصورة أن تسجل قيامه بتعذيب ابن أبي الفوارس تعذيباً سادياً، حيث قلِعَت أضراسه، ثم خلِعَت إحدى يديه، بشدها إلى بكرة متحركة، وعُلقت بالأخرى جندلة، وترِك على حاله من نصف النهار إلى المغرب، ثم قطِعَت يداه ورجلاه في الصباح. ولم تسجل الصورة كيف أن الإمام أبوحنيفة جُلِدَ مئة سوط، بأمر من الحاكم الأموي عمر بن هُبيرة، فمات بعد خمسة أيام، كما يذكر بن حجر.
إن استحضار مثل هذه الفكرة، سيكون قاسياً على القلب، في الوقت الذي نتابع فيه اليوم وبشكل لحظي، كيف يرتكب البشر بحق بعضهم، أقسى أنواع الجريمة. جُماع القول هو أن ما ندركه من صور للإجرام البشري، قد لا يُقاس، بما وقع على البشرية، في ظل غياب توثيق الصورة. فالوصف النثري، لا يشفي غليلاً أبداً، فهو قد يخضع (وكما ذكرت) لتأثيرات عديدة، فإن لم تكن تزويراً، كانت ضحية لتوليدات اللغة وخيال القلم، أما الصورة، فتبقى تعبيراً مجرداً، يساوي ألف كلمة، مثلما تعلمنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3519 - الأربعاء 25 أبريل 2012م الموافق 04 جمادى الآخرة 1433هـ
وللصوره كلمه أقوى من الرصاص
صحيح بأن الصوره أو الفيديو تهزم جيشاً و ربما دوله .. والعكس صحيح ففي زماننا نرى بأن مئات الصور بل الآلاف لا تزيد الجيوش والدوله إثم على إثم وإجرام منقطع النظير وكل هذا بسبب الدعم الإجرامي للدول والحكومات مع بعضها البعض
المعنى بين السطور
شكرا للكاتب