سأعمد إلى إعادة إنتاج مقولة بروفيسور النقد والأدب المقارن في جامعة كولمبيا الأميركي من أصل فلسطيني، إدوارد سعيد: «من وجْهة النظر الأوروبي، كان الشرق تقريباً اختراعاً غربيّاً» إلى «من وجهة نظر الأنظمة العربية المتعاقبة منذ أكثر من 7 عقود، كان المواطن اختراع صدفة أتت به بدعة (الدولة) في جغرافية مازالت القبيلة والعائلة تتحكمان في تفاصيل حياته من المهد إلى اللحد».
ليس افتئاتاً أو قفزاً أو نوعاً من التجني على واقع قائم ترصده الإحصاءات والمؤشرات والتقارير ومعدلات النهب ونِسب البؤس وأرقامه، والتراجع الحاد الذي طال معظم صور وأوْجه الحياة.
تحوّل الفرد... المواطن إلى صُدْفة؛ أو بدعة كي يستقيم وجود واستمرار أي نظام سياسي مهما كانت المؤاخذات على أدائه ودوره، حين يمعن في الأخذ بالحياة وبشرها إلى أكثر من مجهول واحتقان وتشرذم وتفكّك وانعدام استقرار؛ بل استحالته.
الأوطان تُوْجد مفارقاتها أيضاً. ليس البشر وحدهم معنيين بذلك. الأوطان تُوْجد مفارقاتها عبر بشرها أيضاً. مفارقات إما أن تأخذ بهم إلى أن يحتلوا مكانة تغيظ أعداءهم والمتربّصين بهم؛ وإما أن تأخذ بهم إلى ما دون ذلك؛ إلى ما يشفي غليل أعدائهم. ثم إن الإنجاز هو المسألة. والإنجاز في/ ومن الإنسان هو لبُّ المسألة.
لا تهان الأمم في تسوّلها من صناديق النقد الدولية، واضطرارها إلى إصدار صكوك وأذون خزانة كي ترمّم عِوَزَها وانكشافها وعجزها المالي. تهان الأمم حين لا يكون لإنسانها أدنى كرامة فتصبح في العمق واللبّ من ذلك العِوَز والانكشاف.
تلحُّ علينا الكتابة لنرصد أوطاناً وظيفتها الطرْد؛ بفعل وضع قائم وماثل متحكم في كل مفاصلها. تلحُّ علينا فنذهب إلى الرمز ونوغل في مساحة الشعري؛ كي تنجو أرواحنا من نهب شبه يومي، ومصادرات وحتف بالجملة. نضطر إلى أن نكلّم الناس رمزاً في هكذا أوطان وظيفتها الامتهان والتهميش والبتْر والأسوار والتغييب؛ بوفرة أماكن العزْل والحجْر.
لا حق لك في أوطان بهكذا مواصفات حتى في العطْس من دون إذن خطي، وفتح حدقتك على كل صور المهانات يعد خيانة من الدرجة الأولى وانعدام «شرف»!
ترحّب بك الأشياء، ويهفو إليك كل غير ذي حس؛ فيما أنت مبعد حدّ الإيمان بأنك لست هنا. لست موجوداً على الأقل كرقم يتم تداوله والتعاطي معه في دوائر القرار ومساحات الهامش النادرة في كثير من الأحيان؛ وما أكثرها في هذه الأوطان.
ثم إن الحياة التي تتكرّر فيها المداهنات لا تفضي إلى أية قيمة؛ على العكس تفضي مثل تلك المداهنات إلى تأجيل قيمة الحياة؛ والإنسان طرف رئيس من تلك القيمة. تلك المداهنات تكرّس وتثبّت قيمة القوة في بُعدها المنحرف والشاذ. تكرّس وتثبّت سطوتها وتجاوزها. ذلك ما تفضي إليه، وتظل الحياة عموماً رهْن مزاج تلك القوة وجنونها أيضاً.
كيف للحياة في أوطان؛ وحتى خارجها أن تستقيم فيها قيمة الإنسان بهكذا معادلة مفصّلة ومصمّمة لمن بيده القوة التي يستطيع من خلالها اختطاف كل شيء وتجريد المخلوقات من أدنى وأبسط حقوقها؛ حتى حقها في التنفّس؟!
تحاول أن تتذكّر، تسمو، تسرح، تتغافل، تهرب، تواجه، تسترجع، تخف الوطء في هذا الجحيم الذي يطلّ عليك من اللامكان واللاجهات. يطلع عليك هكذا كالصُّدْفة التي قذفت بك في جغرافية تلعب بأبنائها كما يلعب الصبْية بالكرة. لا أحد يصطفي الوطن والأرض التي يريد أن يولد ويحيا ويموت فيها؛ لكن ثمة من يملك خيار أن يحدّد شكل ولون وحجم ومكان وزمان الموت الذي يريد، وأنت خارج المعادلة كعادتك؛ باعتبارك خطأ في الزمان والمكان؛ ولكل خطأ ضريبته واستحقاقاته، بحسب الذين بيدهم قياس الأمور والأعمار المفترضة لك، وتدبيرها عن وعي أو عن غفلة؛ أو عن سبْق إصرار وترصّد.
ثم إن الأبرياء هم الذين يدفعون الأثمان في نهاية المطاف. أثمان وقود محارق يقيمها ويدشنها الجنون. الجنون الذي لا سمة إدهاش فيه. وفيما تذهب مثل تلك الأوطان حد ترصّد النابهين في وعيهم ورفضهم تطلعاً إلى أوطان تؤكد قيمتهم، تصحو من دون أن تنال قسطها من النوم في هذا الهوْل، على وراثة عدم القيمة في ظل جغرافيات وأنظمة ترث الأوطان بما حملت من ثقيلها وخفيفها.
وفي الوقت الذي يحلم فيه الأصحّاء في وعيهم وضميرهم في أن تكون أوطانهم جارة للسماء، يريدها الذاهبون بها إلى محارق بالجملة أن تكون ما دون الأرض بمراحل وأشواط.
ليس خيالاً وجنوحاً وانحيازاً إلى الرمزي حين نقف على شواهد في أوطان عبر أنظمتها تسعى إلى تحويل مواطنيها الافتراضيين إلى كائنات وادعة، فيما هي تعلم أن ذلك ضرباً من المحال؛ لأنهم ليسوا أبناء الصُّدْفة كي يؤمنوا ويقرّوا ويذهبوا إلى تبني تلك الوصفة بعمى أو خدَر في ذروة بلوغه.
ثمة إسراف في الدم لا يشي بقدرة تعامل هذا الجزء من جغرافية العالم على وضع اعتبار لحرمته وقيمته. قيمة مواطن باعتباره أصلاً وحقيقة؛ التعامل معه ما دون الوهْم وأضغاث الأحلام، وفي لحظات سعَة يتم التعامل معه باعتباره صُدْفة يجب النظر إليها بكل صرامة التجاهل وصفْر اليقين. هذا الإسراف والفيضان والهدْر في الإهانات لا يمكن أن يؤسّس مرحلة الدولة أو حتى ما قبلها؛ وخصوصاً أن الإنسان/ الفرد أول دعاماتها وركائزها.و كيف تستقيم دعامة وركيزة بمنأى عن المخلوق/ الكائن المقصى والمبعد والملغى والمغيّب؟ يحلم الواحد منا أن يكون مصير الوطن بيده حين يأخذ - ولا يُمنح - حقه بالمشاركة في تفاصيل ما يدور حوله. أن يكون أكثر من مساحة أو خانة يتم ملؤها في سجلّ أو بطاقة هوية.
أكثر من جواز سفر يمكن أن يباع ويشترى في أسواق باتت قائمة، في ظل الفوضى في السيطرة وإدارة أمور الناس بروح من المسئولية والضمير والأمانة. مثل ذلك الحلم يربك بدعة الكيانات التي ترى المواطن اختراعاً يهدّد ما يُراد له أن يكون ثابتاً وراسخاً، وأي مساس به يعدّ تجاوزاً وتطاولاً على السماء نفسها؛ قبل أن يكون تجاوزاً وتطاولاً عليها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3516 - الأحد 22 أبريل 2012م الموافق 01 جمادى الآخرة 1433هـ